مِن فوائد قصة حديث الإفك.

(مِن فوائد قصة حديث الإفك)

رابط سماع القصة أدنى المقال.

الحمد لله

فإن قصة اتهام أمنا عائشة بالإفك من أكثر القصص إيلاما للنفس السوية، وخاصة عندما تكون هي الراوية لها وتذكر فيها شعورها و حالها، ولا أعلم قارئا أو سامعا لسردها لم يتأثر، تعاطفا مع حالها وما قاسته في تلك الحادثة الأليمة، ولذا فقد استحقت كرامة الله لها بإنزال عشر آيات في براءتها، وكُفر من يقذفها بعد نزول تلك الآيات، ولتبقى قصتها عبرة للجميع صارت من الوحي الذي يُقرأ إلى يوم القيامة.

ولي وقفات مع هذه القصة أرجو أن يكون فيها النفع – (وأرجو الاستماع للقصة أولا قبل قراءة كلامي) – :

 

(١) من المتكلمين في الإفك واتهام عائشة و الذين حدوا ثمانين جلدة حد القذف :

أ. “مسطح بن أثاثة”، وهو من أقرباء أبي بكر الصديق – فأم مسطح هي ابنة خالة أبي بكر – والد الشريفة عائشة رضي الله عنها، وكان مسطح يأخذ نفقته من والدها!.

والأصل أن يُحسن المسلم لمن أحسن إليه فإن لم يستطع فلا أقل من أن يكف شره عنه، وهذا ما دعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه للغضب الشديد من فعل مسطح، وحُق له الغضب.

زد على ذلك أن هذا القذف و التشهير سيؤثر على بيت النبوة مصدر الوحي والعلم و الدين، ولا شك أنه سيسبب أثرا سيئا على المقتدين بهذا البيت و الآخذين منه العلم، ونظرة في حال “الرافضة” الآن تنبئك عن الحال.

فمن المعيب أن تكون “عالة” على شخص في طعامك و شرابك و مسكنك و ملبسك ثم بدلا من الحياء منه وتوقيره و حماية عرضه تصير قاذفا لعرضه متهما لأمانته وتسعى للضرر به و بأسرته.

فإذا كان هذا حال هذا المريض وهو يعيش عالة على غيره فكيف تتوقع حاله لو كان يعيش بعرق جبينه و يحصّل رزقه بنفسه؟!.

ب. “حَمْنة بنت جحش” وهي شقيقة “زينب” أم المؤمنين رضي الله عنها، فبينما كان موقف زينب مشرفا – كما سيأتي – نرى موقف حمْنة – شقيقتها – مخالفا لشرع الله؛ حيث أرادت بقول الإفك على الشريفة عائشة أن ترفع مقام أختها – وهي التي كانت تنافس عائشة في رسول الله صلى الله عليه وسلم – ولو كان بالقذف و التشهير فيما لم تر منه شيئا إنما هو الكذب و الافتراء.

ونرى الشيء نفسه في واقعنا ممن لا يريد من القذف والتشهير إلا رفع نفسه أو جماعته أو حزبه ولو على حساب قذف الناس و التشهير بهم.

ومثل هؤلاء المرضى لا يهمهم نتائج أفعالهم القبيحة مما يحصل بافترائهم من عار و قطيعة و ترك استقامة و إغلاق أبواب الدعوة أمام الناس و طرد دعاة من بلادهم، وغير ذلك، وإنما المهم عندهم تفريغ خبثهم و حسدهم و مرضهم في الأرض و ليكن بعدها ما يكون حتى لو هلك في افترائه أهل بيته و أقرب الناس منه.

(٢) ولما سبق فلا عجب أن ترى دعاء و سبا وشتما من والدة “مسطح” على ولدها – فلذة كبدها – القاذف لعرض الأبرياء و المشهّر بهم ظلما و زورا، وكانت والدة مسطح تدعو عليه و تسبه باستمرار، ومما يدل على ذلك أنها عندما تعثّرت قالت “تعس مسطح”! – ومنه عرفت الحصان الرزان عائشة رضي الله عنها بالإفك -.

ويستفاد منه جواز دعاء الوالد و الوالدة على ولدهم المفسد في الأرض الطاعن في الأعراض والمشكك في الأمانات، ولو استمر ذلك منهم و تكرر طالما أن ولدهم المريض على هذه الحال.

(٣) بيئة المنافقين خصبة للطعن في “أمانة” و “عرض” العاملين للدين، ولذا فإن من تولى كبر الفتنة و الإفك هو زعيم المنافقين “ابن أبيّ بن سلول” ، وتجد هذا المنافق حذرا من أن يثبت عليه اتهام يُحدُّ عليه، فحديثه في مجالس العامة يدور بين “يقولون” و “أتوقع” و “سمعت”، بينما حديثه مع بني جنسه يكون بالتصريح و القطع و التأكيد.

ومثل هذا المنافق تجده نشيطا اجتماعيا في مواضيع الشر و الفتنة، لا يشارك الناس أفراحهم و لا أتراحهم فلا يعود مريضا و لا يشارك في جنازة و لا يعزي في ميت، فإذا جاءت مواضيع الفتنة و الشر تجده نشيطا في الزيارات و الاتصالات و اللقاءات، وهو ينتقي “فرائسه” بخبث بالغ، فيأتي “القريب الموقِّر” و “الصديق المُحِب” و “الخصم اللدود” و “الحاسد البغيض” ويلقي قمامته بينهم فمنهم الكاره لها والكافّ له، و منهم المستمتع بريحها، ولسان حاله – بل قاله – هل من مزيد؟ وليُعلم أنهم تكتب عليهم آثام و سيئات بقولهم “الله المستعان” و “سبحان الله” لأنهم يطلبون بهذه الكلمات المزيد و ليس يريدون إلا تهييج المريض للمزيد من القذف و الافتراء لا أنهم يريدون ذكر الله .

وليس العجب منه فهو معروف لكن العجب ممن يسمع له و يدخله بيته و يعطي لكلامه أهمية، وهؤلاء أحوال و أشكال وأخسهم من يسمع مستمتعا منشرحا ليبرد قلبه الحاسد و الحاقد على الإسلام أو الدعوة أو الإغاثة أو التعليم.

وأخبث الناس في الأرض من جمع بين صفات ابن أبيّ و مسطح و حمنة جميعها.

(٤) (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).

عاتب الله تعالى هنا طائفة من المؤمنين لم يصدقوا الخبر و استبعدوه لكنهم وقعوا في أخطاء :

أ. التلقي باللسان ويعني السؤال عن الخبر والسماع من القاذف الفاجر و المتكلم بالسوء.

ب. قولهم تلك الأخبار ونشرها وليس لهم عذر ولا ينفعهم سبب لفعلهم ذاك.

ج. حسبوا أن الأمر هين فهو – عندهم – (مجرد) كلام، ولكنه عند الله عظيم.

وكان الواجب عليهم الترك بالكلية و الإعراض التام عن الموضوع جملة و تفصيلا.

وفي هذا يقول الرب تعالى (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) ولو فعل الناس ذلك ما وجد ذلك الكاذب القاذف أحدا يسمع له.

أين من الرجال من يكون مثل “زينب بنت جحش” لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة قالت (أحمي سمعي و بصري) فهي لم تسمع و لم تر فكيف تتكلم وحالها كذلك، ونعمت الحماية – والله – هذه لتلك الأعضاء المتوعدة بالعذاب لو كذبت، وهو من عظيم شكر النعمة.

وزينب هي المنافسة الأولى لعائشة فلم تستثمر هذه الفرصة لقول أي حرف فيه كذب.

وأما من يريد أن يحكم بالشرع من القضاة فإن الأصل أن يقول لهذا المريض ابتداء “البيّنة أو حدٌّ في ظهرك” فلا يُسمع منه جملة واحدة ولا خبر، إلا أن يكون معه بينة شرعية فإن كانت في عرض فيأتي بأربعة شهود فإن لم يفعل فلا يُسمع منه، وإن تكلم ولم يأت بأولئك الشهود فهو قاذف وهو عند الله من الكاذبين، قال تعالى (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).

وإن كان الكلام طعنا في “أمانة” فيأتي بشاهدين أو اعتراف غير مكره عليه، وإلا فهو كاذب مفتر يستحق التعزير.

وهكذا حفظت الشريعة أعراض الناس، ويقال للمعترض على هذا الحكم والمنكِر له: اعلم أن لك عرضا و للناس ألسنة، والشرع حمى عرضك أنت كذلك بهذه الأحكام.

(لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم).

(٥) وضع الشرع المطهر القيود بالبينات لئلا تصبح الأعراض نهبة للمنافقين و المرضى، ومن جاء ليعترف بذنبه فإن الشرع يوصيه أن يتوب بينه و بين ربه لا أن يعترف للقاضي بفعلته، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر مع من جاء ليعترف بذنبه لإقامة الحد.

قال الحافظ ابن حجر (الشافعي) :

ويؤخد من قضيته – أي : ماعز عندما أقرَّ بالزنى – أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحدٍ ، كما أشار به أبو بكر وعمر على “ماعز” ، وأن مَن اطَّلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ” لو سترتَه بثوبك لكان خيراً لك “ ، وبهذا جزم الشافعي (رضي الله عنه) فقال : أُحبُّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب ، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر .” فتح الباري ” ( 12 / 124 ، 125 ) .

وهذا حال الكبار مع المعترفين بذنوبهم فكيف سيكون حالهم مع المنكرين لما يقال فيهم و عنهم من الباطل و الإفك؟.

(٦) “من يعذِرُني من رجل بلغني أذاه في أهلي” هل استشعرت أيها القارئ حال نبيك صلى الله عليه وسلم وهو يقول تلك الكلمة طالبا النصرة ؟.

ولله در الصحابي الكبير سعد بن معاذ – سيد الأوس – والذي قال – رادا على طلب النبي صلى الله عليه وسلم – :

“أنا أعذِرك منه (يعني أنا أنصرك) يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك”.

ولعله لولا الفتنة التي وقعت بين الأوس و الخزرج وقتها أن يرضى منه صلى الله عليه وسلم قتله.

(والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم).

والله أعلم

(تنبيه:

وصف أفعال الصحابة المخالف للشرع إنما هو باعتبار الفعل مجردا، وأما الفاعل فقد تاب وأقيم عليه الحد فلا ينسحب الوصف عليه بعد ذلك).

كتبه :

إحسان العتيبي أبو طارق

٢ محرم ١٤٤٥ هـ

سماع القصة :

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
8,570المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة