جبل على جبل

على قمّة جبَل هَمْلان في منطقة «ماركا الجنوبية»، في العاصمة عمّان كان يَسكن جَبَلُ الحديث العلامةُ محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن رحمه الله.

     في تلك الدار رفيعة الجُدُر كان يسكن العالمُ رفيعُ القَدْر، الذي كان ذِكْرُه –وما زال- يملأ الصَّدرَ والنَّحر.

      فبعد أنْ مَلأ صاحبُها مكتبتَها بنوادر الكتُب والمصنَّفات؛ مِن المطبوعات والمخطوطات، وحَصَّن مداخلَها بالأبواب والشِّباكات، ذات الشَّمسيات والقَمَريّات، وطَلَاها بالسماويّ الذي كان يحبُّه، وحَلَّى حديقَتها بأشجار التين والليمون والياسمين والعِنّاب، والزعتر والميرمية التي كانتا تفيدان في طِبّه، والتي ما كان يفارقها صياحُ الديكة وهديل الحمائم، التي كانت تسبِّحُ اللهَ، وتوقظُ النائم.

      وبعد ما كانت تعجُّ بالحياة، ويغشاها طلاب العلم والدعاة، صارت تلك الدار أثرًا بعد عَين، فحرَّكت الحَنين، وأدمَعَت العَين، فلله كم بَكَاها وصاحبَها مِن مُحِب، وكم رَحِمَهما مِن قلب.

      وأذكرَتْني -والله- هذه الدار حين هُدِمت أثَرين، كنتُ كلما قرأتُهما أشجياني، وهيَّجا أحزاني:

  • أما أولهما:

      فما ذكَرَه أهل السِّيَر –ومِن «الأخنائية» لابن تيمية أنقلُ-: عن معاذ بن محمد الأنصاري فقال: سمعت عطاءً الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو بين القبر والمنبر: أدركتُ حُجُراتِ أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم مِن جريدٍ، على أبوابها الـمُسُوح من شعرٍ أسود.

      فحضرتُ كتاب الوليد يُقرأ، فأمر بإدخالها في المسجد، فما رأيتُ يومًا كان أكثر من ذلك اليوم باكيًا.

      فسمعت سعيد بن المسيب يقول: (والله لوددتُ أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناسٌ مِن المدينة ويَقدم قادمٌ من الأفُق، فيرى ما اكتَنّ به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التكاثر والتفاخر).

  • وأما الثاني:

      فما قاله الحاكم –والنقل من «تذكرة الحفاظ» للذهبي-: خرج علينا أبو العباس الأصم في سنة أربع وأربعين، فلما نظَر إلى كثرة الناس والغرباء قد امتلأت السكَّة بهم وهم يطرّقون له ويحملونه، فجلس على جدار المسجد وبكَى، ثم نظر إلى المستملي وقال: اكتب:

     نا الصاغاني سمعت أبا سعيد الأشج يقول: سمعت ابنَ إدريس يقول: أتيتُ بابَ الأعمش بعد موته فدققتُ بابَه، فأجابتني امرأة: هاي هاي, تبكي، وقالت: يا أبا عبد الله ما فعَل جماهيرُ العرب التي كانت تأتي هذا الباب؟

      ثم بكى الكثير.

      وقال: كأني بهذه السكة لا يدخلُها أحدٌ منكم، فإني لا أسمعُ وقد ضعف البصر، وحان الرحيل، وانقضى الأجل.

      قلت: هذه حالُ بيتِ العالم بعد مَوته، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكتب

حسام بن محمد سيف

أبو عمر الضُمَيري

ذو القعدة ١٤٤٠

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
8,570المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة