هل ثمة تعارض بين كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للقيام له وبين رضاه بتقبيل يده؟

السؤال

سؤالي هو: كيف نوفق بين روايتين عن النبي صلي الله عليه وسلم: من ناحية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يقف الصحابة له، ومن ناحية أخرى كان يتركهم يقبلون يده وقدمه.

وكما عرفت من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُحل مثل ذلك أم أنني مخطئ؟ ولأنني أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتكب يومًا خطأ، وكان يقطع كل طرق الشرك، ولكننا اليوم نرى الصوفية يقبِّلون يد وقدم شيوخهم، فكيف نقيم الحجة عليهم من الحديث على مثل هذا؟ وهل ما يفعله الصوفية صحيح أم خطأ؟ أم أنه لا خطأ في ذلك لأنني قرأت هنا على هذا الموقع أن هذا قد تم في عدد من المناسبات، فهل من خطأ في هذا؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

يزول الإشكال عند الأخ السائل إذا علم الفرق بين ما كان عادة متكررة، وما كان أحيانًا لسبب.

فرؤية الصحابة لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم كانت متكررة في كل يوم، ولم يكونوا يقومون له عند رؤيته لما كانوا يعلمونه من كراهيته لذلك.

عن أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ.

رواه الترمذي ( 2754 ) وصححه، وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي “.

وكان أصحابه رضي الله عنهم يصافحونه في كثير من المناسبات واللقاءات، ولم يكونوا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ولا رجله، وهذا هو هدي أصحابه الذين يرونه ويلتقون به عادة وغالبًا، ولا يتعارض هذا مع تقبيل بعض الصحابة يده رجله – مع ترددنا في إثبات تقبيل صحابي لرِجله الشريفة – لسبب اقتضى ذلك، كأن يكونوا حديثي إسلام، أو قدموا من ديارهم ورأوه لأول مرة، وغير ذلك من الأسباب التي تدفع لتقبيل يده ورجله الشريفتين.

وأما سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك منهم فلأن ما فعلوه ليس حرامًا، والذي يظهر لنا أنه كان من باب تأليف قلوبهم، وكانوا هم المبادرين بتقبيل يده الشريفة لا أنهم يمدها لهم، وكراهيته صلى الله عليه وسلم لقيام أصحابه له عند رؤيته ليس فيه استثناء، وهو فعل الأعاجم والأباطرة، بخلاف تقبيل اليد فإنه علامة تقدير ومحبة، ولذا لم يختلف أهل العلم في جواز تقبيل الأولاد أيدي والديهم، ووضعوا شروطًا لتقبيل غيرهما، وهو يدل على أنه ثمة فروقات بين القيام عند الرؤية – ولا استثناء له – وبين تقبيل اليد.

ومما يدل على ما ذكرناه من التفريق:

أ. عن أُمّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ – وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ – قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرِجْلَهُ. رواه أبو داود ( 5227 )، وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في ” فتح الباري “( 11/ 57 )، وحسَّنه الألباني في ” صحيح أبي داود ” وقال: ” حسنٌ، دون ذِكر الرِّجْلين “.

والحديث بوَّب عليه أبو داود بقوله: ” بَاب فِي قُبْلَةِ الرِّجْلِ “.

ب. وعن هود بن عبد الله بن سعد قال: سمعت مزيدة العبدي يقول: وفدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فنزلتُ إليه فقبلتُ يده.

رواه البخاري في ” الأدب المفرد ” ( 587 )، وجوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في ” فتح الباري ” ( 11 / 57 ) وضعفه الألباني في ” ضعيف الأدب المفرد “.

فهؤلاء ليسوا ممن يرى النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، بل هم قدموا من سفر، ولم يتكرر منهم هذا الفعل بعدها كلما رأوه صلى الله عليه وسلم.

وهذا أحسن ما جاء في السنَّة من تقبيل الصحابة رضي الله عنهم ليد النبي صلى الله عليه ورجله، وهما كما رأيت: كلاهما في قدوم أقوام إلى المدينة وفرحهم بإسلامهم ورؤيتهم لأول مرة لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وذِكر ” الرِّجل ” في الحديث الأول في ثبوتها تردد، والحديث الثاني في ثبوته كله تردد، وبه تعلم حال الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يكونوا كلما رأوه قاموا له، ولا كلما صافحوه قبلوا يده، والاستثناء في تقبيل اليد قد علمت حال ثبوته، وممن كان فِعله.

ثانيًا:

وأما شيوخ الصوفية: فأمرهم مختلف، حيث يبادرون إلى مدِّ أيديهم لمريدهم لتقبيلها، وتراهم يرضون عمن يقبلها، ويغضبون عمن يترك تقبيلها، وهذا ممنوع بالاتفاق، وحاشا هذا أن يكون هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هذا – أيضًا – هدي العلماء الربانيين المهتدين بهديه.

وبمثل هذا التفريق والفقه في المسألة قال أئمة الإسلام:

  1. * قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

ولم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يقوموا للنبي صلى الله عليه وسلم لما كانوا يعلمون من كراهته لذلك، ولا كان يقوم بعضهم لبعض ….

والذي ينبغي للناس أن يعتادوا السنَّة في ترك القيام المتكرر للقاء ….

فأما تقبيل اليد: فلم يكونوا يعتادونه إلا قليلًا …

وأما ابتداء مدِّ اليد للناس ليقلبوها وقصده لذلك: فيُنهى عن ذلك بلا نزاع، كائناً مَن كان، بخلاف ما إذا كان المقبِّل المبتدئ بذلك.

” مختصر الفتاوي المصرية ” ( 2 / 26، 27 ).

  1. * وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقوه – صلى الله عليه وسلم – يصافحونه، ولا يقبلون يده، وربما قبَّل يدَه بعضُ الصحابة بعض الأحيان، ولكنها أحوال قليلة، والمشهور عنهم – رضي الله عنهم-: المصافحة، وهذا هو الأكثر، وتقبيل يده أو قدمه: إنما هو شيء قليل، جاء في بعض الأحاديث لأسباب، فعله بعض الصحابة عند قدومه من السفر، فالحاصل: أن السنَّة الغالبة هي المصافحة عند السلام واللقاء، أما تقبيل اليد: إذا فُعل بعض الأحيان: فلا حرج فيه لمصلحة شرعية، أما اتخاذه عادة: فهو خلاف السنَّة. ” فتاوى نور على الدرب ” ( شريط رقم 488 ).

  1. * وقال الشيخ الألباني – رحمه الله -: 

فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن قُبِّلت يدُه فإنما كان على الندرة، وما كان كذلك: فلا يجوز أن يُجعل سنَّةً مستمرة، كما هو معلوم من القواعد الفقهية.

” السلسلة الصحيحة ” ( 1 / 252 ).

ثالثًا:

ومثل هؤلاء شيوخ الصوفية لا يشك أحد أن ما يفعلونه من مد يدهم لمريديهم ليس شرعيًّا، وأن فيه ذلاًّ لأولئك المقبِّلين.

  1. * سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله-:

ما حكم تقبيل اليد خاصة: ولد لوالده، أو تلميذ لشيخه؟.

فأجاب:

تقبيل اليد احترامًا لمن هو أهل للاحترام كالأب والشيخ الكبير والمعلم: لا بأس به، إلا إذا خيف من الضرر: وهو أن الذي قُبِّلت يدُه يعجب بنفسه ويرى أنه في مقامٍ عالٍ، فهنا نمنعها لأجل هذه المفسدة.

” لقاء الباب المفتوح ” ( 177 / السؤال رقم 14 ).

  1. * وقال الشيخ الألباني – رحمه الله -: 

فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا توفرت الشروط الآتية:

  1. ألا يُتخذ عادة بحيث يتطبع العالم على مد يده إلى تلامذته ويتطبع على التبرك بذلك ….
  2. ألا يدعو ذلك إلى تكبر العالم على غيره، ورؤيته لنفسه كما هو الواقع مع بعض المشايخ اليوم. ” السلسلة الصحيحة ” ( 1 / 252، 253 ).

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة