حرْب المُصطلحات.

خواطِرُ دارِ السَّلامِ

(189)

حَرْبُ المُصْطَلَحَاتِ

 

لا شكَّ أنَّ المُصطلحاتِ أوعيةٌ لِمفاهيمَ فكريَّةٍ ذاتِ حُمولةٍ معرفيَّةٍ ضخمةٍ، يُستَغنَى عن سردِ تفاصيلِها بتلك الكلماتِ المُوجزةِ المباني، المُتراميةِ المعاني. كما أنَّها -في الوقتِ نفسِهِ- مرآةٌ عاكسةٌ للخلفيَّاتِ المعرفيَّةِ والحضاريَّةِ التي نشأتْ في أحضانِها، وهو ما يُمثِّلُ فرقًا هائلًا بين العلومِ الماديَّةِ البَحتةِ التي تتماهَى فيها المصطلحاتُ إلى حدٍّ كبيرٍ، والعلومِ الإنسانيَّةِ التي تتباينُ فيها مفاهيمُ المُصطلحاتِ بتبايُنِ المَرجعيَّاتِ الدينيَّةِ والفكريَّةِ والحضاريَّةِ والسياسيَّةِ للبيئةِ التي خرجتْ تلك المصطلحاتُ من رَحمِها، وترعرعَتْ في أكنافِها، وهو ما يقتضي وَعيًا مَعرفيًّا بما وراءَ وما بينَ السُّطورِ، ويَقظةً تامَّةً من حَرَسِ الحُدودِ المُرابطينَ على تلكَ الثُّغورِ.

ويُدركُ الأعداءُ الكاشِحونَ والصَّائلونَ معًا أهميَّةَ التَّسلُّلِ من ثَغرِ المُصطلحِ، تحتَ شِعاراتِ الحداثةِ والتنويرِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَولمةِ المعرفيَّةِ، مُستغلِّينَ غفلةَ كثيرٍ من المُتصدِّرينَ المُنهزمينَ فكريًّا عن الخُصوصيَّاتِ الحضاريَّةِ لكلِّ أمَّةِ، والتي تُشكِّلُ هُويَّتَها، وتُعَدُّ بوصلةً تُحدِّدَ مَسارَ رِحلَتِها، ممَّا يُوصِّلُ في النَّهايةِ إلى فرضِ ثَقافةِ الغَالبينَ على المَغلوبينَ، ويحكمُ بالإعدامِ على حَضاراتِ المستضعفينَ، بعدما باعَها الغافلونَ والمتآمرونَ بأثمانٍ بخسةٍ دَنِيَّةٍ، ولا غروَ؛ فهم الذين عيَّنَهُمُ الأعداءُ سَماسرةً في أسواقِ النِّخاسةِ الفكريَّةِ!

 

وتسميةُ الأشياءِ بغيرِ أسمائِها فِتنةٌ قديمةٌ مُتجدِّدةٌ، فمن قديمٍ سمَّى الشيطانُ الرجيمُ الشَّجرةَ التي نهى الله آدمَ عن الأكلِ منها بشجرةِ الخُلْدِ، ووعدَهُ إِنْ أكلَ مِنها بِمُلكٍ لا يَبْلَى، وقد نَهَى اللهُ الصَّحابَةَ عَنْ أنْ يَستلْفِتوا انتباهَ الرَّسولِ، صلَّى الله عليه وسلَّم، بكلمةٍ مَلغومَةٍ هي: رَاعِنَا، وأرشَدَهُم إلى مُرادفٍ آمنٍ وهو: انْظُرْنا، فقال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا واسمعوا)؛ لأنَّ المشركينَ كانوا يستعملونَها قاصدينَ الدُّعاءَ عليه، صلَّى الله عليه وسلَّم، بالرُّعونَةِ! ولكَ أنْ تقيسَ على ذلك تَسْمِيَتَهُم الرِّشوةَ هديَّةً أوْ إكراميَّةً، وتَسْمِيَتَهُم القمارَ حظَّا ونصيبًا، وتَسْمِيَتَهُم أهل الخَلاعَةِ والمُجونِ نُجومًا وكواكبَ، وتَسْمِيَتَهُم الفوائدَ الربويَّة أرباحًا وعوائدَ، وتَسْمِيَتَهُم القروضَ الربويَّة تمويلًا، وتَسْمِيَتَهُم الخمورَ مشروباتٍ روحيَّةً، وفي الحديث: «لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ ‌يُسَمُّونَهَا ‌بِغَيْرِ اسْمِهَا»، والأمثلةُ على ذلكَ أكثرُ من أنْ تُحْصَرَ.

 

والتَّلاعُبُ بِالمُصطلحاتِ ضربٌ من تسميةِ الأشياءِ بغيرِ أسمائِها، لكنَّهُ أدْهَى وأمَرُّ؛ لِمَا يترتَّبُ عليه من تحريفاتٍ شرعيَّةٍ، وتشويهاتٍ مفهوميَّة، يقول شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة (ت728هـ): «ومنْ أعظمِ أسبابِ الغَلَطِ في فهمِ كلامِ الله ورسوله، أنْ ينشَأَ الرَّجُلُ على اصطلاحٍ حادثٍ، فَيُريدَ أنْ يُفسِّر كلامَ الله بذلكَ الاصطلاحِ، ويَحْمِلُهُ على تلكِ اللُّغةِ التي اعْتَادَها».

 

وفي أيَّامِنا هذه تلوكُ الألسنةُ كثيرًا من المُصطلحاتِ المَلغومةِ، مثل: مصطلحِ (الحُرِّيَّةِ)، فهو يستخدمُ في البلادِ الغربيَّةِ بمعنى حريَّةِ الشُّذوذِ والفُسوقِ، فترى الرَّجُلَ يتزوَّجُ الرَّجلَ، والمرأةَ تتزوَّجُ المرأةَ، تحتَ شعارِ الحريَّةِ، مع المخالفةِ الصَّريحةِ للفطرةِ، ومع أنَّهمْ لا يتسامحونَ في خرقِ القانونِ في الطَّريقِ أو النِّظامِ العَامِّ مِثقالَ ذَرَّةٍ، ويسلبونَ النَّاسَ حُرِّيَّتهمْ تمامًا في هذا المقامِ. ومُصطلحُ (التَّشريع) الذي يُعطونَ به المجالسَ النيابيَّةَ ونحوَها الحقَّ في سنِّ قوانينَ، وإنْ خالفتِ الشَّرعَ جُملةً وتفصيلًا، كتلكِ المجالسِ التي تُسَوِّي بينَ الرَّجُلِ والمرأةِ في الميراثِ، أو تمنعُ تَعدُّدَ الزَّوجاتِ، أو تَمنَعُ زواجَ المُسلمِ مِنَ الكِتَابيَّةِ مُطلقًا، وكلُّها قوانينُ مُعتمَدةٌ في بعضِ الدُّولِ الإسلاميَّةِ لِلأسفِ!

 

وفي سياقِ الحربِ الصُّهيونيَّةِ الإجراميَّةِ على قطاعِ غزَّةِ، والتي دخلتِ اليومَ شهرَها الخامسَ دُونَ توقُّفٍ، وسطَ عجزٍ وخُنوعٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ مُهينٍ، وتواطُؤٍ دَوليٍّ خَسيسٍ، كانتْ آخرُ أماراتِ سقوطِهِ وإجرامِهِ قطعَ المعوناتِ عن وكالةِ غَوثِ وتشغيلِ اللَّاجئينَ الفلسطينيِّينَ المعروفةِ اختصارًا باسمِ الأونروا (UNRWA) في محاولةٍ يائسةٍ لِتركيعِ وتجويعِ شعبٍ صَامدٍ أَبِيٍّ لَا يركعُ إلَّا للهِ، تدورُ بالتَّزامُنِ مع جَحيمِ النِّيرانِ رَحَى حربٍ فكريَّةٍ ضُروسٍ في عالمِ المُصطلحاتِ؛ إذ يُمعنُ الصَّهايِنَةُ وأذنابُهمْ في استخدامِ جُملةٍ من المُصطلحاتِ الملغومةِ التي يُقصَدُ مِنْ وراءِ الإصرارِ على ترديدِها ترسيخُها في عقولِ المُستمعينِ، وإنجاحُ عملياتِ غسيلِ المخِّ الموجَّهةِ إلى الشَّبابِ غيرِ المُحصَّنِينَ، أكتفي بذكرِ سبعةٍ منها:

 

(1) مصطلحُ الإرهابِ (Terrorism)، فالصَّهاينةُ وأذنابُهم في الشرقِ والغربِ يُمْعِنُونَ في استخدامِهِ وصفًا للمقاومينَ والمُجاهدينَ، الذين يَسْعَوْنَ إلى حُرِّيَّةِ أوطانِهم، ويجاهدون في سبيلِ تخليصِها مِنْ نِيرِ الاستعبادِ، وتحريرِها من رِبْقةِ الظُّلمِ والاستبدادِ، وكأنَّ هذا التَّلاعُبَ المُمَنْهجَ ستارٌ لِصَبِّ اللَّعناتِ عليهم في الأبواقِ الإعلاميَّةِ، وتسويغٌ للمُلاحقاتِ القضائيَّةِ. والحقُّ أنَّ الإرهابَ قد يكونُ مَحمودًا إذا تضمَّنَ إخافةَ العدوِّ، وإلقاءَ الرُّعبِ في قلبِهِ، وهو منصوصٌ عليهِ في القرآنِ الكريمِ، قالَ تعالَى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ‌تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، وقالَ: (لَأَنْتُمْ ‌أَشَدُّ ‌رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)، وقد يكونُ مذمومًا إذا كانَ اعتداءً على المُسالِمِينَ، وتَرويعًا للآمنين، وفي حالَتِنا هذه نرى كلَّ مَنْ يُشارِكُ في صَدِّ العَدُوِّ المُجرمِ الصَّائِلِ لَيسَ إرهابيًّا، بل هو مجاهدٌ شريفٌ، يَعيشٌ حَميدًا، ويموتُ شَهيدًا، والإرهابيُّونَ الحقيقيُّونَ هم الذينَ يَقتلونَ النِّساءَ والأطفالَ، وكذلكَ الَّذينَ يَمدُّونهمْ بالأسلحةِ الفتَّاكَةِ، والذينَ يتواطَؤونَ معهمْ سِرًّا وعَلانيةً.

 

(2) مُصطلحُ الرَّهائنِ (Hostages)، فقد أمعنَ الصَّهاينةُ في وَصْفِ أسراهم لدى فصائلِ المُقاومةِ بأنَّهم رَهائنُ، ولا يصفونَهم بالأَسْرى (Captures)؛ لأنَّ القانونَ الدَّوْلِيَّ -الذي لا يَستيقظُ من سُباتِهِ العَمِيقِ إلَّا ضِدَّنا- يُحرِّم ويجرِّم أخذَ شخصٍ مَدنِيِّ رهينةً؛ من أجلِ المُقايضةِ سواءً بالمالِ أو بالأفرادِ، ومِنْ ثمَّ يُمكنُ ملاحقة أولئكَ المُقاومينِ باعتبارهمْ مُجرمينَ؛ لأنَّهم أخذوا مئاتٍ من الرَّهائنِ، على الرغم مِنْ أنَّ مُعظمَهم عسكريُّونَ، كما أنَّ كلَّ مُواطنٍ في الكيانِ المُحتلُّ هو مُجنَّدٌ في خدمةِ ما يُسمَّى بجيشِ الدِّفاعِ، ناهيك عن كونِهم غاصبينَ أُخِذُوا من أرضٍ لا حقَّ لهم فيها.

 

(3) مُصطلحُ أعمالِ العُنفِ (Violence)، فقد دأبتْ وسائلُ الإعلامِ المُواليةِ لآلةِ الحَرْبِ الصُّهيونيَّةِ، وبخاصَّةٍ في الدُّولِ الغربيَّةِ، على وصفِ المَجازِرِ الوحشيَّةِ التي تتمُّ على مَدارِ السَّاعَةِ بأنَّها أعمالُ عُنْفٍ، وكأنَّها مُشَادَّةٌ بينَ عائلتيْنِ بالعِصِيِّ الغليظةِ أو الأسلحةِ البيضاءِ. والحقُّ أنَّها مُجازِرُ وحشيَّةٌ تُستخدَمُ فيها الأسلحةُ المحرَّمَةُ دوليًّا، بصورةٍ همجيَّةٍ لم يسمعِ العالمُ بمثلِها ضدَّ المَدنييِّنَ منذ حربِ (فيتنام) التي استمرَّتْ قُرابةَ عشرينَ عامًا (1955-1975م)، والَّتِي كانَ الشيطانُ الأكبرُ الدَّاعمُ الأولُ للاحتلالِ الصُّهيونيِّ (أمريكا) يرتكِبُها ضدَّ المَدنيِّينَ العُزْلِ من أهلِ (فيتنامِ)، ولكنْ على الرغمِ من ملايينِ الضَّحايا الذينَ أوقعَتْهم طائِراتُهم العَمياءُ، وقنابِلُهم الغبيَّةُ، خرجَ الأمريكيُّونَ مِنْها مَذمومينَ مَدحورينَ، مَلُومينَ مَحسُورينَ، ولا يزالُ عارُ تلكَ الهَزيمةِ يُلاحِقُهم حتَّى السَّاعةِ، وهو ما نراهُ في الأفقِ مَاثلًا ينتظرُ مَدْعُومِيهمْ منَ اليهودِ المَلاعينِ، إِنَّهُمْ ‌يَرَوْنَهُ ‌بَعِيدًا، وَنَرَاهُ قَرِيبًا.

 

(4) مُصطلح المُخرِّبينَ (Vandals)، وهو مُصطلحُ نشأَ في رِحابِ الهَمجيَّةِ الأوروبيَّةِ، فكانَ وصفًا لقبائلِ (الفاندال) التي انسابتْ من الدُّولِ الإسكندنافيَّةِ، لِتخرِّبَ كلَّ ما تمرُّ بهِ، كما كانَ يَفعلُ في الشَّرقِ خُلَفَاؤُهم من التَّتارِ، وقد تحوَّلَتْ هذه الكلمةُ بعدَ مجموعةٍ من التَّحويراتِ الصَّوتيَّةِ والتَّحوُّلاتِ الدَّلاليَّةِ، ليأتِيَ منها اسمُ (الأندلس)، وفي سياقِ الحربِ الإجراميَّةِ الحاليَّةِ يُمعنُ الصَّهايِنَةُ في وَصْفِ المُقاوِمينَ بالمُخرِّبينَ، وأعتقدُ أنَّهُ لَوْ نُفِخَتِ الرُّوحُ في تلكَ الكلمةِ، وطُلِبَ منها أنْ تختارَ شَخْصًا أو جماعةً تنطبقُ عليها حرفيًّا، فَلَنْ تَجِدَ أحقرَ سُلوكًا، ولا أوسعَ تَخْريبًا، ولا أشنعَ إجرامًا من اليهودِ أفرادًا وجَماعاتٍ؛ ولا ننسى أنَّ تلكَ الدَّولةَ اللَّقيطةَ قامتْ على عواتقِ جماعاتِ الإجرامِ من العِصاباتِ الصُّهيونيَّةِ الإرهابيَّة، مثل: (الهاجاناه)، (أرجون)، (شتيرن)، (بيتار)، (بلماح) وغيرهم، واليوم يُمارسُ أحفادُهم الفعلَ نفسَهُ بأسلحةٍ أكثرَ تَطَوُّرًا، وأشنعَ فتكًا، بين عالمٍ عربيٍّ أعجزَ فعلًا، وأخرسَ صوتًا!

 

(5) مُصطلحُ الإخلاءِ (Evacuation)، حيثَ دأبَ المُجرمونَ على إخراجِ الناسِ من دِيارِهم، ويُسمُّونَ ذلكَ بالإخلاءِ، وكأنَّنا أمامَ بِنايَةٍ مُتصدِّعَةٍ تقومُ حكومةٌ راشدةٌ بإخلاءِ النَّاسِ منها؛ حفاظًا على أرواحِهم! والحقُّ أنَّنا أمامَ سياسةٍ إجراميَّةٍ مُمنهجةٍ للتَّهجيرِ دَاخليًّا وخارجيًّا؛ لتكرارِ آلامِ النَّكبةِ التي هَجَّرَتْ مئاتِ الآلافِ من الفلسطينيِّينَ، وأحلَّتْ شُذَّاذِ الآفاقِ من اليهودِ المُجْتَلَبِينَ من شتَّى أصقاعِ الأرضِ مَحَلَّهُم، وقدْ برهنَتِ الحربُ الحاليَّةُ على أنَّ الشَّعبَ الفلسطينيَّ مُتجذِّرٌ في أرضِه، وأنَّ وَطَنَه يَعيشُ في فُؤادِه، فهو يَفديه برُوحِهِ ومَالِهِ وبَنِيه جذلانَ راضيًا، وهو أبلغُ ردٍّ على أولئكِ السُّفهاِء الَّذينَ طالَما رَفَعُوا عَقيرَتَهم بأنَّ الفِلسطينيِّينَ باعُوا أرضَهم للصَّهاينةِ، وهي فِرْيَةٌ ما فيها مِرْيَةٌ، وكلُّ يومٍ يَمُرُّ في تلك الحربِ يحملُ عشراتِ الأدلَّةِ التي تقولُ بلسانِ الحالِ: ‌كَبُرَتْ ‌كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.

 

(6) مُصطلحُ الأوكارِ (Dens)، حيثُ جَرَتْ وسائلُ الإعلامِ الصُّهيونيَّةِ المَارقةِ على وصفِ مَخابئِ المُقاومَةِ بأنَّها أوكارٌ، وكأنَّنا أمامَ عِصابَةٍ لِلتِّجارةِ في المُخدِّراتِ، أو بيتٍ من بيوتِ الدَّعارَةِ. والحقُّ أنَّنا أمامَ مَرابِضَ للمُجاهدينَ، الَّذينَ حَقَّقُوا مُعجزةً عسكريَّةً بِكُلِّ ما تَحمِلُهُ الكلمةُ من مَعانٍ، بِحَفرِ تلكَ الأنفاقِ الَّتي مَرَّغَتْ أُنوفَ الصَّهاينةِ في التُّرابِ، والتي لم تُفلحْ حتَّى السَّاعةِ في الوُصولِ إلى مُعْظَمِها، معَ وُجودِ دعمٍ لا ينقطِعُ من طائراتِ الاستطلاعِ الأمريكيَّةِ والبريطانيَّةِ، ولكنَّ ذا الكيدِ الشَّديدِ أَصَمَّهُمْ ‌وَأَعْمَى ‌أَبْصَارَهُمْ.

 

(7) مُصطلحُ المُستوطناتِ (Settlements)، فمنذُ ولادةِ هذا الكِيانِ اللَّقيطِ، وهو يقومُ على فكرةِ الاستيطانِ، بغرسِ بُؤَرٍ تضمُّ القُطعانَ المُجتلبَةَ مِنْ هَمَجِ اليهودِ، وبناءِ بُيوتٍ لهمْ مكانَ البيوتَ التي هجَّروا أهلَها، واغتصبُوا أرضَها، ويصفونَها بأنَّها مُستوطَناتٌ، وكأنَّها تجمُّعاتٌ سكنيَّةٌ شرعيَّةٌ بمثابةِ أوطانِ صغيرةٍ لأولئكِ السُّكَّانِ الذينَ يُسمُّونَهمْ مُسْتوطِنينَ. والحقُّ أنَّها مُغْتَصَبَاتٌ بُنِيتْ بطريقةٍ غيرِ قانونيَّةٍ على أرضٍ محتلَّةٍ، والذينَ يَعيشونَ فيها لُصوصٌ مُجرمونَ، ومُقاومتُهم وإخراجُهم منها عملٌ بطوليٌّ شرعًا وقانونًا، وقريبًا إنْ شاءَ اللهُ سَنَرَى جميعَ تلك المُغْتَصَبَاتِ، التي أَرْبَتْ في الضِّفَّةِ الغربيَّةِ على 176، بالإضافة إلى 186 بؤرةً استيطانيَّةً (وهي نواةٌ صغيرةٌ لِمستوطَنَةٍ يُرادُ لها أنْ تتوسَّعَ مُستقبلًا) وقد سُلِّمَتْ إلى الشَّعبِ الفلسطينيِّ، فقد كانُوا أحقَّ بها وأهلَها، كما سَلِّمَتْ من قبلُ المُغْتَصَبَاتُ التي أقامُوها في سيناءَ وغزَّةَ.

 

وختامًا، فإنَّ الجُرْحَ عميقٌ غَائِرٌ، وإنَّ الألمَ يفوقُ الوَصفَ والتَّصويرَ، وإنَّ رائحةَ الخِذلانِ تزكُمُ الأنوفَ، وإنَّ الصَّمْتَ والخنوعَ العربيَّ يُصيبُ كلَّ حُرٍّ أبيٍّ بالاشمئزازِ، ويُشعِرُهُ بالهوانِ والصَّغارِ، ولكنَّ ثَباتَ المُقاومَةِ وصُمُودَها الأُسطوريَّ يَفوقُ الوَصْفَ أيضًا، وتضحياتُ هذا الشَّعبِ المِغوارِ تُعْجِزُ البليغَ المِنطيقَ، ولا نَمْلِكُ إلَّا أنْ نَختِمَ الخاطرةَ بما خَتَمَ به الشَّاعِرُ المِصْريُّ محمود غنيم (ت1972م) قصيدَتَهُ التي ألقاها في بغدادَ عام (1965م) قائلًا:

اللَّاجِئُونَ جِرَاحٌ فِي جَوَانِحِنَا *** تَدْمَى، فَهَلْ لِجِرَاحِ العُرْبِ ضَمَّادُ؟

اللَّاجِئُونَ سَقَامٌ فِي مَفَاصِلِنَا *** وَلَا شِفَاءَ لَهُ إِلَّا إِذَا عَادُوا

أَلْقُوا بِصُهْيُونَ فِي عُرْضِ الفَلَاةِ، فَهُمْ *** مِنْ عَهْدِ فِرْعَوْنَ أَفَّاقُونَ شُرَّادُ

لَا يَحْسَبِ القَوْمُ أَنَّ العُرْبَ قَدْ عَقِمُوا *** شَعْبُ العُرُوبَةِ لِلأَبْطَالِ وَلَّادُ

مَا زَالَ فِينَا لِعَمْرٍو وَابْنِ حَارِثَةٍ *** وَخَالِدٍ وَصَلَاحِ الدِّينِ أَنْدَادُ

* * *

نجز في بندر سري بجاوان، بروناي دار السلام

الخميس، 27 رجب 1445هـ

الموافق 8 فبراير 2024م

الدكتور مصطفى السواحلي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
8,480المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة