حكم تزيين جدران المساجد وتعليق صورة القدس – وغيرها – في قبلتها

السؤال

نحن – يا شيخ – نعيش فتنة كبيرة بسبب تعليق ” صورة القدس ” في القبلة للمسجد، نريد فتوى على ذلك، هل نعلقها أم لا؟ نريد فتوى شرعية تبين ذلك، نطلب من حضرتكم السرعة في الإجابة قبل هذه الجمعة إذا سمحتم في ذلك.

لا ننسى شكركم، والسلام.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

لا يجوز للمصلين أن يجعلوا للشيطان طريقًا إليهم ليفتنهم في أخوتهم واجتماعهم فيفرِّق بينهم ويجعلهم أعداءً بعضهم لبعض، وبيوت الله تعالى لم تبنَ لمثل تلك الاختلافات والنزاعات، وإنما بُنيت لذِكر الله وإقامة شعائر دينه، فالواجب على عقلاء المصلين أن لا يسمحوا بالفرقة أن تكون بين أهل المسجد وعليهم السعي لحل ما يعترض أخوتهم وائتلافهم بعرض المسائل على أهل العلم الثقات ليفصلوا في مسائل النزاع، وأن تبقى بيوت الله تعالى بعيدة عن الشقاق والنزاع.

ثانيًا:

وبخصوص تعليق صورة القدس – أو غيرها – في قبلة المسجد: فإننا لا نرى جواز ذلك، لا في القبلة وفي أي مكان آخر في المسجد، ويجب أن تُصان بيوت الله عن مشابهة الكنائس وبيوت العبادة عند الكفار حيث يحرصون على تلوين الجدران وتزيينها وتعليق الصور والتحف في أرجاء تلك البيوت.

وقد روى البخاري في صحيحه – معلَّقًا – ( 1 / 171 ) – عن عُمَر بن الخطاب لما أمر بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ النبوي َقَالَ: ” أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ “.

والتحمير والتصفير إنما يكون في الجدران، وهو من الزينة والزخرفة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ ).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ” لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى “.

رواه أبو داود ( 448 ) وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود “.

وهذه الزخرفة هي التي تكون داخل المساجد على الجدران، فتبين أن الصحابة الأجلاء قد نهوا عن زخرفة المساجد وتزيينها بالتلوين لجدرانها، وبالنقش في جدرانها، وغير ذلك من أنواع وأشكال الزخرفة، ولا شك أن تعليق الصور في جدران المساجد ووضع البراويز بالآيات المزخرفة هو من الزخرفة والتزيين المنهي عنه في كلام الصحابة الأجلاء، فلا يخرج حكم تزيين جدران المساجد عن كونه بدعة أو مشابهة لأهل الكتاب وكلاهما منهي عنه في الشرع المطهَّر، ويشتد المنع إذا كانت تلك الزينة في قبلة المسجد؛ لإشغالها المصلي عن التدبر والخشوع في صلاته.

* وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 23 / 217 ، 218 ):

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يكره زخرفة المسجد بذهب أو فضة، أو نقش، أو صبغ، أو كتابة أو غير ذلك مما يلهي المصلي عن صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أمرت بتشييد المساجد ) والتشييد: الطلاء بالشيد أي: الجص، قال ابن عباس: ” لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى “، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)- رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني -، وروى البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله عنه أمر ببناء مسجد وقال: ” أكنَّ الناس من المطر، وإياك أن تُحمِّر أو تصفِّر فتفتن الناس “، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ” إذا حلَّيتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدبار عليكم “؛ ولأن ذلك يلهي المصلي عن الصلاة بالنظر إليه فيخل بخشوعه، ولأن هذا من أشراط الساعة. انتهى.

وقال الشيخ حسام الدين عفانة – أستاذ الفقه والأصول في ” كلية الدعوة وأصول الدين ” جامعة ” القدس ” – وفقه الله – بعد أن ساق طائفة من الأدلة على منع تعليق الصور في المسجد -:

أرى أنه لا يجوز تعليق الصور مهما كانت في قبلة المسجد، وكذلك تعليق اللوحات سواء كانت لوحات قرآنية أو مجلات حائط أو نحوها في قبلة المسجد وأمام المصلين؛ لأنها بالتأكيد تشغلهم عن صلاتهم، وينبغي – بشكل عام – تنزيه المسجد عن مثل هذه الأمور، فالمساجد ليست معارض ولا متاحف لتعليق الصور أو اللوحات الفنية أو الزخرفات المختلفة. ” فتاوى حسام الدين عفانة ” ( 1 / 177 ) – ترقيم الشاملة -.

ثالثًا:

وليَعلم كل من تسبَّب في إشغال المصلين عن صلاتهم أن له نصيبًا من الإثم بسبب مخالفته لحكم الشرع، ولإشغال قلوب المصلين عن صلاتهم.

* قال أبو حامد الغزالي – رحمه الله -:

وفِرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد، وهي أيضا مغرورة من وجهين:

أحدهما:

الرياء وطلب الثناء؛ فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها، وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد ليظهر ذلك بين الناس.

والثاني:

أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين ومختطفة أبصارهم، والمقصود من الصلاة: الخشوع وحضور القلب، وذلك يفسد قلوب المصلين، ويحبط ثوابهم بذلك، ووبال ذلك كله يرجع إليه، وهو مع ذلك يغتر به،  ويرى أنه من الخيرات، ويعدُّ ذلك وسيلة إلى الله تعالى، وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى، وهو يظن أنه مطيع له وممتثل لأمره وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد، وربما شوَّقهم به إلى زخارف الدنيا فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه، ووبال ذلك كله في رقبته؛ إذ المسجد للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى. ” إحياء علوم الدين ” ( 3 / 408 ).

وكنَّا قد ذكرنا هذا الحكم بأدلته، وذكرنا معه المنع من كتابة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في قِبلة المسجد – وأولى أن يكون هذا حكم تعليق الصور في قبلة المسجد – وذلك في جواب آخر، وخلاصته: أننا لا نرى جواز تعليق الصور عمومًا في المساجد، ويقوى المنع إذا كانت معلَّقة في قِبلة المسجد.

ونسأل الله لكم التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يكون ما ذكرناه هنا كافيًا لقطع النزاع بينكم، وأن لا يتردد الإخوة في نزع تلك الصورة أو اتخاذ قرار بعدم تعليقها؛ استجابة لحكم الشرع العام بترك التنازع ونبذ الفُرقة، وحكمه الخاص في عين المسألة.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة