هل يجوز للمسلم أن يعرِّض نفسه للهلاك ليفدي شخصًا آخر؟

السؤال

لو أنا ومعي أحد أحبه أو أي شخص في أي مكان وهناك ما يهدد حياته كسيارة مسرعة – مثلًا – ممكن أفديه بنفسي وأنا أعرف أني ممكن أموت لو فديته؟.

هل هذا يعتبر انتحارًا؟ وهل ثمة فرق بين مفاداة المسلم وغير المسلم في ذلك؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

هذه المسألة دقيقة النظر وجليلة القدر، وهي تُبحث في مباحث ” الإيثار ” و ” الجود “، فهي من الإيثار والجود بالنفس، وقد ذكرها العلماء المعاصرون في مسائل ومباحث ” التبرع بالأعضاء “.

ثانيًا:

وقد وقفنا على قولين مختلفيْن في المسألة، فمنهم من أجاز الإيثار والجود بالنفس، وجعلوه من أعلى درجات الإيثار والجود، ومن أبرز أدلتهم:

  1. قوله تعالى: ( وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) الحشر/ 9.
  2. حديث أنس في غزو أحد وفيه: ” فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، لاَ تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِى دُونَ نَحْرِكَ “. رواه البخاري ( 3600 ) ومسلم ( 1811 ).

ومنهم من منع؛ لوجوب الحفاظ على النفس، وعدم جواز التفريط بها، ولم يجعلوا الإيثار بالنفس من صور الإيثار الممدوح فاعله، ومن أبرز أدلتهم:

  1. قوله تعالى ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) النساء/ 29.
  2. وقوله تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة/ 195.

ومن المانعين من استثنى صورًا قليلة فقال بجوازها، وسيأتي ذِكرها مع الراجح من الأقوال المختلفة.

ثالثًا:

وننبه هنا على أمرين:

  1. مَن منع من الإيثار بالنفس لا يسمِّي فاعل ذلك ” منتحرًا “؛ لأن الانتحار هو مباشرة قتل النفس بيد صاحبها وهذا ليس كذلك في الصورة المسئول عنها.
  2. من أجاز الفعل لم يجزه إن كان فداءً لكافر أو حيوان.

رابعًا:

ومن القائلين بالجواز طائفة كبيرة من علماء الشافعية، بل لعله إجماع عندهم، وقد وافقهم الإمام ابن القيم رحمه الله.

  1. قال أبو عبد الله الزركشي – رحمه الله -:

وقال الإمام – وهو: أبو المعالي عبد الملك الجويني – في باب ” صول الفحل “: لا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثِر، وهو من شيم الصالحين، فإذا اضطر وانتهى إلى المخمصة ومعه ما يسد جوعته وفي رفقته مضطر فآثره بالطعام: فهو حسن، وكذا القول في سائر الإيثارات التي يُتدارك بها المهج.

قال: ولا خلاف أنه لا يحل إيثار البهيمة، وكيف يظن هذا ويجب قتل البهيمة لاستبقاء المهجة؟!.

وقال والده – وهو: أبو محمد عبد الله بن يوسف الجُويْني – في باب التيمم: من الفروق: المضطر إن أراد الايثار بما معه لاستحياء مهجة أخرى كان له الإيثار وإن خاف فوات مهجته، ومن دخل عليه وقت الصلاة ومعه ما يكفيه لطهارته وهناك من يحتاجه للطهارة: لم يجز له الإيثار، والفرق بينهما: أن الحق في الطهارة حق لله فلا يسوغ فيه الإيثار، والحق في حال المخمصة حقه في نفسه، وقد عَلم أن المهجتين على شرف التلف إلا واحدة تُستدرك بذلك الطعام فحسن إيثار غيره على نفسه. ” المنثور في القواعد ” ( 1 / 211 ).

  1. وقال زكريا الأنصاري – رحمه الله -:

وللمضطر أن يؤثِر بطعامه على نفسه مسلمًا مضطرًا غير مراق الدم، بل يستحب له ذلك وإن كان أولى به كما ذكره ” الأصل ” وغيره؛ لقوله تعالى (وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )، وقال الإمام: لا خلاف فيه وإن أدى إلى هلاك نفسه؛ لأن الحرمة شاملة للجميع، وهو من شيم الصالحين، بل إن كان المسلم نبيًّا لزمه بذله له كما ذكره ” الأصل “، وأما خبر ( ابدأ بنفسك ) فمحمول على غير ذلك.

ومنه قوله ( لا ذميًّا أو كافرًا غير ذمي ) كما فهم بالأَوْلى، ( ولا بهيمة ) أي: ليس له أن يؤثرهما على نفسه؛ لكمال شرف المسلم على غيره، والآدمي على البهيمة. ” أسنى المطالب في شرح روض الطالب ” ( 1 / 572 ).

  1. وقال ابن القيم – رحمه الله -:

وعلى هذا: فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر على نفسه واستسلم للموت: كان ذلك جائزًا، ولم يُقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: ( وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) الحشر/ 9، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة فى فتوح الشام، وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم. ” زاد المعاد في هدي خير العباد ” ( 3 / 505 ، 506 ).

والذي قصده ابن القيم في آخر كلامه هو ما ورد في ” معركة اليرموك ” في قصة رويت عن حذيفة العدوي  قال ” انطلقتُ يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو ” هشام بن العاص ” فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول : آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعتُ إلى ” هشام ” فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

ولم نقف لها على إسناد.

خامسًا:

وقد منع جمهور العلماء من هذه الصور من الفداء بالنفس، ولم يعدُّوا ذلك جودًا ولا إيثارًا شرعيَّيْن، وإنما يكون المسلم ممدوحًا بإيثاره إن آثر على نفسه الجوع ليشبع غيره، والضيق على نفسه ليتوسع غيره، على أن لا يفرِّط في واجب ولا يرتكب محرَّمًا، وقد أُمر المسلم بالحفاظ على نفسه، ومنع من التسبب بإتلافها، فضلًا عن مباشرة ذلك بيده.

قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله – في شرح الحديث المتفق عليه ( خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ):

الغِنى يعني به في الحديث: حصول ما تُدفع به الحاجات الضرورية؛ كالأكل عند الجوع المشوِّش الذى لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله: فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به ولا التصدُّق، بل يحرم؛ وذلك أنه إن آثر غيره بذلك: أدى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقِّه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات: صحّ الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدَّة المشقة. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ( 3 / 81 ).

وقد توسَّع الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي – أستاذ وعميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر – في بحث هذه المسألة في بحثه ” انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًّا أو ميتًا في الفقه الإسلامي “، ونحن نلخص ما قاله في هذه النقاط:

  1. ما ورد في الحديث الشريف من أن أبا طلحة ترس للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: هذا موضوع آخر، فالجهاد في سبيل الله يكون بالمال، ويكون بالنفس، وكونه بالنفس معناه تقديمها حماية لحرمات الإسلام والذود عنه، ورد الأعداء مهزومين، ويكون ذلك بأمور: منها: الهجوم على الأعداء، ومنها: حماية القادة والوقوف سدًّا منيعًا أمام النيل منهم، وإبعادًا للأعداء عنهم، حتى يتم التخطيط السليم للمعركة وإدارتها الإدارة المحكمة، وقد كان ما فعله أبو طلحة من هذا النوع رضي الله عنه.
  2. إن حفظ الحياة هدف عظيم، ومصلحة من المصالح الضرورية، فالحياة لا يعرضها الإنسان للتهلكة، قال تعالى: ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وقال: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ).
  3. أرى أن دائرة الإيثار ليست مطلقة في كل شيء، فهي في الحظوظ الدنيوية، ولذلك وجدنا الإمام السيوطي يقول في الإيثار في القرب وفي العبادات:

” بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب: فهو حرام، كالماء وساتر العورة والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد ولا تنتهي النوبة لآخرهم إلا بعد الوقت، وأشباه ذلك.

وإن أدى إلى ترك سنة أو ارتكاب مكروه: فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى مما ليس فيه نهي مخصوص: فخلاف الأولى “. ” الأشباه والنظائر ” ( ص 117 ).

إذن: لا بد من البحث في حكم الشيء المأثور به الغير، هل يؤدي الإيثار به إلى ترك واجب، فإن أدى إلى ذلك: كان حرامًا، ونعلم جميعًا: أن حفظ النفس أمر واجب، وإبعاد الضرر عنها أمر واجب، وهذا بالإجماع، وتعريضها للخطر أو للتهلكة أمر منهي عنه، فهو حرام.

ومن ثم يكون الإيثار بالنفس ذاتها وبجسم الإنسان أو أعضائه: حرامًا، ولا يجوز الإقدام عليه، ما عدا ما ذكرناه في أمر الجهاد في سبيل الله تعالى.

  1. كذلك: فإن بقاء الحياة مع الإيثار أمر لا بد من أن يكون مراعى، فإذا أقدم إنسان في مخمصة على إعطاء ما ينقذ حياته إلى غيره لينقذه من مخمصة: كان آثمًا؛ لأنه ألقى نفسه في التهكلة، وذلك منهي عنه بنص الآية الكريمة.

فالإيثار يكون فيما يمكن للإنسان الصبر عليه مع بقاء حياته، لا بما ينقذ حياته، والأحاديث الشريفة السابقة تدل على ذلك، وهو بصيغة الأمر: ( ابدأ بنفسك ).

  1. النتيجة العامَّة لهذا البحث:

كل هذا يدلنا على أن تفسير الآيتين الكريمتين – أي: ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) و (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) – يَمْنَعُ أن يقتل الإنسان نفسه، ويمنع أن يُعَرِّض الإنسان نفسه للهلاك في كل الأحوال، وفي جميع الحالات، سوى في حالة واحدة، بضوابط محددة، وهي حالة اقتحام الواحد على الجيش العظيم، عالِمًا أن اقتحامه يُحقق مصلحة الدين ومنفعة جميع المسلمين، وفي غير ذلك: يكون ممنوعًا إلقاء النفس في التهلكة، حتى ولو كان إيثارًا؛ لأن الإيثار إنما يكون بالمباحات، ولا يكون بالمحرمات، والله أعلم.

” مجلة مجمع الفقه الإسلامي ” ( 4 / 143 – 240 ) باختصار.

فالخلاصة:

  1. الإيثار المشروع يكون في حظوظ الدنيا، و لا يدخل فيه الإيثار بالنفس، فيجوز للمسلم أن يؤثر غيره من المسلمين في الطعام فيجوع، وفي التوسعة عليه فيضيق على نفسه.
  2. لا يكون الإيثار بالنفس مشروعًا فيقدِّم هلاك نفسه استبقاء لنفس غيره؛ لأن حفاظه على نفسه من واجبات الشرع وإلقاءه لنفسه بالتهلكة من المحرمات، وليست هذه من أبواب الإيثار المشروع، ولا من صور الجود المحبوب.
  3. من أجاز من العلماء الإيثار بالنفس لم يجعله فداء لكافر – لا حربي ولا ذمي – ويقاس عليه: عدم جوازه لمعشوقة أو معشوق، أو لفاسق أو فاجر، أو استبقاء لنفس ظالم أو طاغية متجبر.
  4. ومن أجاز تلك الصور من الإيثار والجود بالنفس: لم يقل بمباشرة إهلاك نفسه بيده، وعليه: فلا يستدل من الجواز على التبرع بالعضو الذي يكون فيه هلاكه، كمن يتبرع بقلبه لغيره؛ فإنه يكون قاتلًا لنفسه، وليس هو من باب الإيثار الحسن ولا الجود الممدوح عند من أجاز الصورة الواردة في السؤال.
  5. ومن منع فلا نرى أن يُطلق على على من فعل ذلك أنه منتحر؛ لأنه لم يباشر قتل نفسه بنفسه، بل يقال إنه ارتكب فعلًا محرَّمًا.
  6. الذي يترجح عندنا عدم جواز إهلاك النفس فداء لآخر من المسلمين إن تيقن الفاعل هلاك نفسه أو غلب على ظنه بشبه اليقين.
  7. ويُستثنى من الصور الممنوعة: ما لو تحقق هلاك أحد النفسين فقدَّم نفسه فداء لعالِم ينتفع الناس ببقائه، أو فداء لقائد الجهاد يتضرر المجاهدون بهلاكه.

قال الشاطبي – رحمه الله -:

وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ” الموافقات ” ( 3 / 93 ).

قلنا: والقياس عليه صلى الله عليه وسلم محتمل، فهو معلِّمٌ هادي يعلِّم الخلْق ويهديهم، وهو قائد جيش، والتعليم والقيادة للجيش مستمران إلى يوم القيامة ومتكرران في أتباعه صلى الله عليه وسلم.

ومن فقه ابن حبَّان رحمه الله أن بوَّب على حديث أبي طلحة بقوله: ” ذِكر الإباحة للمرء أن يفدي إمامه بنفسه “. ” صحيح ابن حبان ” ( 10 / 443 ).

وما عدا هذا فلا نراه جائزًا، بل يؤمر المرء بالمحافظة على نفسه، ولا يفتدي أحدًا بنفسه، ولا مانع من تعريض نفسه للأذى أو الضرر في سبيل منع هلاك غيره إن كان يصبر على ما يصيبه، وليحاول منع الضرر عن غيره بكل ما يملك من وسائل من غير تعريض نفسه للهلاك.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة