إذا كان كل شيء مكتوبا ومقدرا، فما دورنا كبشر؟

السؤال

تحدث لي أشياء سيئة كثيرة لكنني أحاول وآمل أن تتحسن الأمور يومًا ما، رغم أني ألوم نفسي، لكن الملّا (الشيخ) قال لي إن هذا محتوم وينبغي أن أعتبره اختبارًا من الله.

أتساءل: إذا كان كل شيء مقدرا ومكتوبا ما دورنا كبشر؟ ماذا يقول الإسلام عن المحاولة والقدر؟

الجواب

الحمد لله

  1. نحن لا ندري ماذا كتب الله لنا، لذا فإن دور المسلم هو العمل بطاعة الله تعالى والابتعاد عن نهيه، وأما ما كتبه الله علينا في الأزل فهو يدل على كمال علمه سبحانه وأنه يعلم ما كان وما يكون، ولا علاقة لعلمه سبحانه بما سنفعل بالثواب والعقاب، إنما الثواب والعقاب على أعمالنا.

لذا لا ينبغي للعاصي أن يحتج بقدر الله تعالى، لأن الله تعالى أمرنا أن نؤمن بالقدر لا أن نحتج به، ومن احتج على معاصيه بالقدر فقد شابه المشركين فضلا عن أنه حكم على عقله بالفساد، وعلى دينه بالنقض، وفيه خراب للعالم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض؛ فإن القدر إن كان حجة وعذرًا: لزم أن لا يُلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظُلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحد أن يفعله فهو ممتنع طبعً محرمٌ شرعًا.

ولو كان القدر حجة وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا ولا معاقبًا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزًا، ولا إقامة الحدود جائزًا، ولا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل، ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.

ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلًا في فِطَر الخلق وعقولهم: لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم؛ فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته.

ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده. ” مجموع الفتاوى ” ( 2 / 323 ).

  1. وما يوجد في نفوس الناس من الشر هو من خلق الله، لكن هذا لا يعني أنه الله يحبه فضلا عن أن يكون قد أمر به، وكيف يكون ذلك وهو الذي أمر بمجاهدة النفس، ورتَّب الثواب عليها، ونهى عن الشر والمعصية ورتَّب العقوبة عليها؟ والله تعالى جعل – بحكمته – النفوسَ مهيأة للخير والشر، وطلب من الناس فعل الخير وترك الشر والمعاصي، هذا هو عملهم وما خُلقوا لأجله.

لكن خلط الناس في هذا الأمر جعلهم يتخبطون في فهم هذه الحقيقة الشرعية المهمة.

قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله:

ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يُلهم العبد فجورَه وتقواه، والإلهام: الإلقاء في القلب، لا مجرد البيان والتعليم – كما قاله طائفة من المفسرين – إذ لا يقال لمن بيَّن لغيره شيئًا وعلَّمه إياه أنه قد ألهمه ذلك هذا لا يعرف في اللغة البتة، بل الصواب ما قاله ابن زيد قال: جعل فيها فجورها وتقواها، وعليه حديث عمران بن حصين أن رجلا من مزينة – أو جهينة – أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال: بل شيء قضي عليهم ومضى قال، ففيم العمل؟ قال: مَن خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها، وتصديق ذلك في كتاب الله {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها }.

فقراءته هذه الآية عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها لا مجرد تعريفها، فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر، ومن فسر الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك لا تعريف مجرد عن الحصول فإنه لا يسمى إلهاما، وبالله التوفيق. ” شفاء العليل ” ( ص 55 ).

  1. ومن علم مراتب القدر وفهمها على وجهها الشرعي انحلت عنه إشكالات كثيرة، وزالت من قلبه وعقله وساوس متعددة، وبخاصة المرتبة الثالثة وفيها بيان التفريق بين الإرادة الكونية وهو ما شاءه الله أزلا، وبين الإرادة الشرعية وهو ما يحبه الله ويرضاه.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

قد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:

الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك كما قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ العنكبوت / 62 ]، وقال تعالى: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الطلاق / 12 ]، وقال تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام / 59 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

الثاني: من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك كما قال سبحانه: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحج / 70 ]، في آيات كثيرة سبق بعضها آنفًا، وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: { فَأمّا مَن أعطى . وصدَّقَ بالحُسنى } الآيتين [ الليل / 5 ، 6 ]، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.

الأمر الثالث من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته، كما قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير / 28 ، 29 ]، وقال تعالى: { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ المدثر / 55، 56 ]، وقال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام / 137 ]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الأنعام / 39 ]، وقال عز وجل: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام / 125 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً معلومة من كتاب الله.

والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية بخلاف الإرادة في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء / 26 – 28 ]، فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة، والفرق بين الإرادتين:

الأولى: لا يتخلف مرادها أبدًا، بل ما أراده الله كونا فلا بد من وقوعه كما قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يـس / 82 ].

أما الإرادة الشرعية: فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف.

وإيضاح ذلك: أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة ولم يتبصر في الحق؛ لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبيَّنها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعًا لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين ولا ممن يوفق للتوبة.

وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين.

ومما يزيد المقام بيانا أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن فهو إنما أمن بمشيئة الله وإرادته الكونية وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة فتنبه وتأمل والله الموفق.

الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال فالجميع خلق الله سبحانه وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله وأفعالهم تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة / 20]، وقال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير / 28 ، 29 ]، فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته فعلم الله شامل ومشيئته نافذة وقدرته كاملة لا يعجزه سبحانه شيء ولا يفوته أحد كما قال عز وجل: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الطلاق / 12 ]، والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان وغير ذلك من الموجودات كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته لا خالق غيره ولا رب سواه ولا شريك له في ذلك كله كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته كما قال تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ الزمر / 62 ]، وقال تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة / 163 ]، وقال سبحانه: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ . الله الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص كلها ]، وقال سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى / 11 }، فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق وصفاته كذاته ليست مخلوقة وكلامه من صفاته والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة.

وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره.

وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد وأوضحوها بأدلتها وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: ” العقيدة الواسطية ” وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبد الله ابن القيم في كتابه: ” شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ” وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه ننصح بقراءته والاستفادة منه.

والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم . . إنه جواد كريم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ” فتاوى ابن باز ” ( 6 / 58 – 61 ).

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة