هل كان ابن القيم صوفيًّا؟ وماذا عن كتابه ” مدارج السالكين “؟

السؤال

قرأتُ كلامًا لابن قيم الجوزية في كتابيه ” مدارج السالكين ” و ” الوابل الصيِّب ” حيث تكلم عن الصوفية، ففهمت من كلامه أنه يؤيدها، وأنا هنا أتساءل: كيف يمكن لطالب العلم أن يفهم كلام ابن القيم؟ وماذا قال علماء الماضي والعلماء المعاصرون عن صوفية ابن القيم؟ وهل يمكن أن توجهوني إلى الكتب التي ينبغي عدم قراءتها؟ أرجو توضيح كل ذلك؛ لأن ابن القيم رضي الله معدود من أهل السنَّة والجماعة فقد احترت في فهم كلامه.

سؤال أخير: سمعتُ أن ابن تيمية رضي الله عنه كان يتبع طريقة صوفية معينة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان كذلك فأرجو الشرح والتفصيل؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

ابن قيم الجوزية – رحمه الله – هو محمد بن أبي بكر الزرَعي الدمشقي هو من أئمَّة أهل السنَّة والجماعة, ومن أخص تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وقد تأثر به تأثرًا كبيرًا, وهو صاحبُ المؤلفات البديعة والكبيرة في مختلف العلوم الشرعية، وقد توفي عام 751 هـ.

ثانيًا:

لا شكَّ أنه لا أحد معصوم من الخطأِ من علماء الإسلام, فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد, لهذا قيل ” يُعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال “، وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس ” كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر- يريد: رسول الله صلى الله عليه وسلم – “، فغايةُ أمرنا هو اتباع الكتابِ والسنَّة والاهتداء بهديهما, لا اتباع الأشخاص والتمسك بهم, وإنه مما يُحكم به على الشخص ما انتهى إليه لا ما كان عليه, وقد حذر ابن القيم رحمه الله كثيراً من الصوفية من أقوالهم ومعتقداتهم في كثير من كتبه.

ثالثًا:

إن منشأ اختلاف أهل العلمِ في أن ابن القيم – رحمه الله – كان صوفيًّا أو لم يكن راجع إلى أمور ثلاثة:

  1. في إعلانه توبته مما كانَ عليهِ من الخلطِ في الاعتقادِ ومدحِهِ شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان سبباً في تلك الهداية – كما سيأتي ذكر الأبيات -.
  2. في كتابه ” مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ” وهو شرح لكتاب شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي ” منازل السائرين “.

وقد اشتملَ هذا الكتابُ على شرحٍ وتحقيق لكتاب الهروي من حدودَ ومسائل ذكرها, أبطل فيها بعض العقائدِ الصوفية, كما اشتمل على معالم السلوك وتزكية النفوس ومن الأمور القلبيةِ.

  1. مدحه للتصوف وبعض أئمة الصوفية.

وممن قال إن ابن القيم رحمه الله كان صوفيًّا:

  1. الشيخ الألباني – رحمه الله -.

– وقد ذكر أنَّ ابن القيم مرَّ بمرحلتينِ:

أ. مرحلة التصوف.

ب. مرحلة التوبة.

وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن تأليف ابن القيم لكتاب ” مدارج السالكين” كان في المرحلة الأولى.  ” سلسلة الهدى والنور ” ( شريط رقم 437 ).

وقد رددنا على هذا في الجواب المحال عليه، وذكرنا ثمة أن كتاب ” مدارج السالكين ” قد ألَّفه ابن القيم بعد وفاة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، وأن كتاب ” مدارج السالكين ” هو آخر – أو: من أواخر – ما كتبه ابن القيم من كتبه، في أواخر حياته.

2.*  الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -.

وفي ذكره مَن مَنَّ الله عليه بالهداية قال:

وابن القيم كان صوفيًّا، ثم منَّ الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية، فهداه الله على يده حتى كان ربانيًّا.  ” مجموع فتاوى الشيخ العثيمين ” ( 9 / 377 ).

  1. * الشيخ صالح آل الشيخ – حفظه الله -:

قال:

فأراد ابن القيم – وقد كان في فترة من حياته متأثرًا بالقوم بعض التأثر – أراد ابن القيم رحمه الله أن يكتب كتابًا سلفيًّا في السلوك، يهدي به المتصوفة، ويكون أيضا سبيلًا لأهل السنَّة للاطلاع على السلوك والسلفية …. ” منازل السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ” … . ” مسائل في طلب العلم ” ( 4 / 15 ) – ترقيم الشاملة -.

رابعًا:

– وأما الرد على ما ذكره أولئك الأعلام:

  1. لم يكنِ ابنُ القيم أول أمره صوفيًّا، بل الذي ثبت أنه كان عنده بعض الأخطاءِ في الاعتقادِ ثم تاب منها على يدِ شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يكن ذلك الاعتقاد في باب التصوف، بل كان في باب الأسماء والصفات.

وبما أنَّ الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله – قد درسَ حياة ابن القيم وآثاره ولم يذكر تصوفًا له البتَّةَ، بل قد كانت البدع المتلبس بها غير هذا الباب.

* قال الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله -:

ذكر ابنُ القيم رحمه الله في ” النونية ” بعضَ ما يقوله الأشاعرة وغيرهم في الصفات من التأويلات, وبعض ما في كتب النفاة من الطامات, وبيَّن ضررهم على الدين، ومناهضتهم لنصوص الكتاب والسنَّة، ثم عقد فصلاً ذكر فيه أنه قد وقع في بعض المهالك حتى أتاحَ له الإله من أزال عنه تلك الأوهام, وأخذ بيده إلى طريق الحق والسلامة، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية.

وفي إعلانه لتوبته على يديه يقول:

يا قوم والله العظيم نصيحة **** من مشفق وأخ لكم معوان

جربت هذا كله ووقعت في **** تلك الشباك وكنت ذا طيران

حتى أتاح لي الإله بفضله **** من ليس تجزيه يدي ولساني

بفتى أتى من أرض حران فيا **** أهلا بمن قد جاء من حران

فالله يجزيه الذي هو أهله **** من جنة المأوى مع الرضوان

أخذت يداه يدي وسار فلم يرم **** حتى أراني مطلع الإيمان

ورأيت أعلام المدينة حولها **** نزل الهدى وعساكر القرآن

ورأيت آثارا عظيما شأنها **** محجوبة عن زمرة العميان

ووردت رأس الماء أبيض صافيًا *** حصباؤه كلآلئ التيجان

ورأيت أكوازا هناك كثيرة *** مثل النجوم لوارد ظمآن

ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان

ميزاب سنته وقول إلهه *** وهما مدى الأيام لا ينيان

والناس لا يردونه إلا من الآ *** لاف أفرادا ذوي إيمان

وردوا عذاب مناهل أكرم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان

ثم إن ابن القيم – رحمه الله – أعاد الكرة بذكر هذه النعمةِ فبيَّن أنه طاف المذاهب يبتغي الهدى والنور, فما زاده ذلك التطواف إلا ظلمة وحرقة حتى هداه الله تعالى وتداركه بلطفه, فأخذ بزمام الكتاب والسنَّة واستعصم بهما عن المذاهب الكلامية والمناهج الفلسفية، وفي ذلك يقول:

يا طالب الحق المبين ومؤثرا *** علم اليقين وصحة الإيمان

اسمع مقالة ناصح خبر الذي *** عند الورى مذ شب حتى الآن

ما زال مذ عقدت يداه إزاره *** قد شد ميرزه إلى الرحمن

وتخلل الفترات للعزمات أمـ *** ـر لازم لطبيعة الإنسان

وتولد النقصان من فتراته *** أو ليس سائرنا بني النقصان

طاف المذاهب يبتغي نورًا *** ليهديه وينجيه من النيران

وكأنه قد طاف يبتغي ظلمة الـ *** ـليل البهيم ومذهب الحيران

والليل لا يزداد إلا قوة *** والصبح مقهور بذي السلطان

حتى بدت في سيره نار على *** طور المدينة مطلع الإيمان

فأتى ليقبسها فلم يمكنه مع *** تلك القيود منالها بأمان

لولا تداركه الإله بلطفه *** ولى على العقبين ذا نكصان

لكن توقف خاضعا متذللًا *** مستشعر الإفلاس من أثمان

فأتاه جند حل عنه قيوده *** فامتد حينئذ له الباعان

والله لولا أن تحل قيوده *** وتزول عنه ربقة الشيطان

كان الرقي إلى الثريا مصعدا *** من دون تلك النار في الإمكان

فرأى بتلك النار آكام المديـ *** ـنة كالخيام تشوفها العينان

ورأى هنالك كل هاد مهتد *** يدعو إلى الإيمان والإيقان

فهناك هنأ نفسه متذكرًا *** ما قاله المشتاق منذ زمان

إلى أن قال:

إن رمتَ تبصر ما ذكرت فغضَّ *** طرفًا عن سوى الآثار والقرآن

” ابن القيم حياته وآثاره ” ( ص 130 – 134 ).

  1. وأما بخصوص كتابه ” مدارج السالكين “: فإن الأمر على عكس ما قاله بعض أولئك الأعلام وغيرهم؛ فإن كتاب ” مدارج السالكين ” لابن القيم رحمه الله هو مرجع مهم لمعرفة الصوفية وأحوالهم!.

* قال علماء اللجنة الدائمة:

ومَن أراد معرفة أحوال الصوفية ومعتقداتهم بالتفصيل: فليقرأ كتاب ” مدارج السالكين ” لابن قيم الجوزية، وكتاب ” هذه هي الصوفية ” لعبد الرحمن الوكيل.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.  ” فتاوى اللجنة الدائمة ” المجموعة الثانية ( 2 / 90 ).

  1. وأما بخصوص ثناء الإمامين ابن القيم أو شيخ الإسلام ابن تيمية على بعضِ أهل التصوف فهو ليس ثناء على صوفيةِ أهلِ البدع والانحراف من المستأخرين منهم, إنما هو ثناء على أهل التصوف المتبعين لكتاب الله وسنَّة سيِّد المرسلين, كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام في ” مجموع فتاويه ” في المجلد العاشر ” علم السلوك “.

* سئل علماء اللجنة الدائمة:

قرأتُ في كتاب ” هذه الصوفية ” أنها فرقة ضالة منحرفة عن العقيدة والسلوك مبتدعة في العبادات، ثم قرأت في مجلد ” التصوف ” لشيخ الإسلام ابن تيمية و ” مدارج السالكين ” لابن القيم كلاماً دلَّ على أن الصوفية فيهم من أهل العلم والزهد والتقوى ومن هم على منهج السلف الصالح، وأن منهم من يقول ” إن طريقنا هو العمل بالكتاب والسنَّة “.

فأرجو من فضيلتكم أن تفيدوني هل يجوز أن نقول: الصوفية على الإطلاق فرقة ضالة منحرفة، أو نقول : الأمر على التفصيل، أو ماذا نقول فيهم؟.

فأجابوا:

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الصوفية، وأن منهم أناسًا معتدلين، يعني: القُدامى منهم، وأما المتأخرون: فيغلب عليهم الانحراف والضلال، وعلى كل حال: فالتصوف مبتدع في الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ).

والواجب على المسلم التمسك بالكتاب والسنَّة والسير على منهج السلف في الاعتقاد والعمل.  وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.  ” فتاوى اللجنة الدائمة ” المجموعة الثانية ( 2 / 94 ، 95 ).

خامسًا:

وأما كتاب ” الوابل الصيِّب ” فليس فيه أدنى إشارة إلى التصوف، وقد ذكر بعض محققي نسخ الكتاب منهج ابن القيم فيه وبعض المؤاخذات على الكتاب، وليس منها شيء يتعلق بالتصوف ومدحه ومدح أهله.

هذا، وليُعلم أنه لا يضير ابن القيم أن كان صوفيّاً أول أمره، بل العبرة بما كان عليه آخر أيامه؛ فالأعمال بالخواتيم، وإنما نفينا هذا عنه لأنه ليس موجودًا في سيرته، وليس لأنه منزَّه عن هذا، وكيف يكون هذا وقد ذكرنا أنه كان على ضلال في أبواب أخرى في الاعتقاد؟!.

وبخصوص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقد كان إماماً في العلم، وسلفيًّا في الاعتقاد، وحاشاه أن يكون صوفيًّا.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة