غضب من أهل المسجد فأنشأ مسجدًا بجانبه فأقام فيه الجمعة والعيد!

السؤال

نحن نعيش في مدينة صغيرة في ” الولايات المتحدة الأمريكية “، عدد المسلمين فيها حوالي 5000 مسلم، والذين يداومون على حضور صلاة الجمعة حوالي 30، وعلى صلاة العشاء والفجر حوالي عشرة، سؤالي عن مشكلة حصلت بين إمام المسجد وعضو فعَّال في المجتمع، كلهم عرب، نتج عنها خروج هذا العضو عن الجماعة، واشتراء مبنى مجاور للمسجد لا يبعد إلا دقيقتين على الأقدام، وجعله مسجدًا آخر، وأصبح يرغِّب الناس في الصلاة بالمسجد الجديد عن طريق تجهيز الولائم، والنشاطات المختلفة، فانقسم الناس، وأصبح يقام في نفس الشارع جماعتان، ووصل الحد إلى أن أصبح هناك صلاتا عيد في نفس الشارع, فهل يعتبر فعله هذا بدعة وتفريق بين المجتمع؟ وما نصيحتكم لهذا الأخ؟ وهل يجوز لنا الصلاة معهم في المسجد الجديد، أو هذا يعتبر عوناً لهم على زيادة الفرقة؟.

الجواب

الحمد لله

لا شك ولا ريب أن هذا من التفرق المذموم، وإذا كان تفرق المسلمين في بلادهم منكَرًا: فإنه أشد نكارة إن كان بين ظهراني الكفار، ففيه إظهار الإسلام بصورة سلبيَّة، وإظهار المسلمين أنهم أصحاب أهواء شخصية، وليسوا أصحاب رسالة خالدة.

وإذا كان في إقامة أكثر من مسجد في البقعة الواحدة فيه تشجيع على الطاعة: فإن إقامة العيد والجمعة في ذات البقعة: هو من علامات الفرقة الواضحة البيِّنة، ولذا ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة! إلا أن تدعو لذلك حاجة شديدة: كضيق المسجد، أو تباعد أطراف القرية، أو ضرورة: كما إذا وُجد أهل قرية متفرقين، ولم يمكن اجتماعهم في مسجد واحد إلا مع مزيد فرقة ونزاع: جاز لهم أن يصلوا في مسجدين، وليس ذلك إلا دفعاً لتركهم الصلاة، وإلا فإنهم يؤاخذون على تفرقهم، وهذه فتوى جامعة في هذه المسألة، نسأل الله أن ينفعكم بها.

* سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:

ما حكم إقامة الجمعة في موضعين، أو أكثر، من المدينة، أو الحارة، مع بيان الدليل الشافي؟.

فأجاب:

اعلم وفقك الله أن الذي عليه جمهور أهل العلم: تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة، إلا من حاجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم في مدينته المنورة مدة حياته صلى الله عليه وسلم سوى جمعة واحدة، وهكذا في عهد خلفائه الراشدين، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا في سائر الأمصار الإسلامية في صدر الإسلام، وما ذلك إلا لأن الجماعة مرغَّب فيها من جهة الشرع المطهر؛ لما في اجتماع المسلمين في مكان واحد حال إقامة الجمعة، والعيد، من التعاون على البرِّ، والتقوى، وإقامة شعائر الإسلام، ولما في ذلك – أيضًا – من الاختلاف بينهم، والمودة، والتعارف، والتفقه في الإسلام، وتأسي بعضهم ببعض في الخير، ولما في ذلك – أيضًا – من زيادة الفضل، والأجر، بكثرة الجماعة، وإغاظة أعداء الإسلام من المنافقين، وغيرهم، باتحاد الكلمة، وعدم الفُرقة.

وقد وردت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنَّة في الحث على الاجتماع، والائتلاف، والتحذير من الفُرقة، والاختلاف، فمِن ذلك قول الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا )، وقوله سبحانه: ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) – رواه مسلم ( 1715 ) -.

ومما تقدم يتضح لكم: أن الواجب هو اجتماع أهل المدينة، أو القرية، على جمعة واحدة، كما يجتمعون على صلاة عيد واحدة حيث أمكن ذلك، من دون مشقة؛ للأدلة المتقدمة، والأسباب السالفة، والمصلحة الكبرى في الاجتماع.

أما إن دعت الحاجة الشديدة إلى إقامة جمعتين، أو أكثر، في البلد، أو الحارة الكبيرة: فلا بأس بذلك، في أصح قولي العلماء، وذلك مثل: أن تكون البلد متباعدة الأطراف، ويشق على أهلها أن يجتمعوا في مسجدٍ واحدٍ: فلا بأس أن يقيموا الجمعة في مسجدين، أو أكثر، على حسب الحاجة، وهكذا لو كانت الحارة واسعة لا يمكن اجتماع أهلها في مسجدٍ واحدٍ: فلا بأس أن يُقام فيها جمعتان، كالقرية، ولهذا لما بُنيت ” بغداد “، وكانت واسعة الأرجاء: أقيم فيها جمعتان، إحداهما: في الجانب الشرقي، والثانية: في الجانب الغربي، وذلك في وسط القرن الثاني، بحضرة العلماء المشهورين، ولم ينكروا ذلك؛ لدعاء الحاجة إليه، ولمَّا قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلافته: إن في الكوفة ضعَفة يشق عليهم الخروج إلى الصحراء لحضور صلاة العيد أمَر مَن يقيم لهم صلاة العيد بالبلد، وصلَّى رضي الله عنه بجمهور الناس في الصحراء.

فإذا جاز ذلك في العيد للحاجة: فالجمعة مثله؛ بجامع المشقة، والحاجة، والرفق بالمسلمين، وقد نصَّ الكثير من العلماء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة، قال موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه ” المغني ” (ص 184) الجزء الثاني، عند قول أبي القاسم الخرقي رحمه الله: ” وإذا كان البلد كبيرًا يحتاج إلى جوامع: فصلاة الجمعة في جميعها جائزة ” ما نصه: ” وجملته: أن البلد متى كان كبيرًا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد، ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره، أو ضيق مسجده عن أهله، كبغداد، وأصبهان، ونحوهما من الأمصار الكبار: جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها، وهذا قول عطاء، وأجازه أبو يوسف في بغداد، دون غيرها؛ لأن الحدود تقام فيها في موضعين، والجمعة، حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين: جازت إقامة الجمعة في موضعين منه؛ لأن الجمعة حيث تقام الحدود، وهذا قول ابن المبارك، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، رحمهم الله: لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد، وكذا الخلفاء بعده، ولو جاز: لم يعطلوا المساجد، حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما: لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلِّي فيه الإمام “.

* ثم قال الموفق رحمه الله: ” ولنا: أنها صلاة شُرع لها الاجتماع، والخطبة، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع، كصلاة العيد، وقد ثبت أن عليًّا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلَّى، ويستخلف على ضعَفة النَّاس: أبا مسعود البدري، فيصلِّي بهم، فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الجمعتين: فَلِغِنَاهُم عن إحداهما؛ لأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم؛ لأنه المبلغ عن الله، وشارع الأحكام، ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار: صليت في أماكن، ولم يُنكر، فصار إجماعًا، وقول ابن عمر يعني: ” أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبير “.

وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود: فلا وجه له، قال أبو داود: سمعت أحمد رحمه الله يقول: أي حدٍّ كان يُقام بالمدينة؟ قدِمَها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار، فجمع بهم، وهم أربعون، فأما مع عدم الحاجة: فلا يجوز في أكثر من واحد، وإن حصل الغنى باثنين: لم تجز الثالثة، وكذلك ما زاد، لا نعلم في هذا مخالفًا، إلا أن عطاء قيل له: إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر، قال: لكل قوم مسجد يجتمعون فيه، ويجزئ ذلك من التجمع في المسجد الأكبر، وما عليه الجمهور: أولى؛ إذ لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة واحدة، إذ لم تدع الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل ” انتهى كلامه رحمه الله.

* وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة الجمعة في جامع القلعة بدمشق، هل هي جائزة مع أن في البلد خطبة أخرى أم لا؟.

فأجاب: ” نعم، يجوز أن يصلى فيها جمعة؛ لأنها مدينة أخرى كـ ” مصر “، و ” القاهرة “، ولو لم تكن كمدينة أخرى، فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة: يجوز عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت ” بغداد ” ولها جانبان: أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء ” انتهى كلامه رحمه الله.

وبما ذكرنا يتضح للسائل جواز إقامة جمعتين فأكثر في بلد واحدة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، إما لضيق المسجد الواحد، وعدم اتساعه لأهل البلد، أو لسعة البلد، وتباعد أطرافها، والمشقة الشديدة عليهم في تجميعهم في مسجد واحد، ومثل ذلك لو كان أهل البلد قبيلتين، أو أكثر، وبينهم وحشة ونزاع، ويُخشى من اجتماعهم قيام فتنة بينهم، وقتال، فيجوز لكل قبيلة أن تجمع وحدها، ما دامت الوحشة قائمة، وهكذا ما يشبه ذلك من الأسباب. ” فتاوى الشيخ ابن باز ” ( 12 / 351 – 356 ).

فعلى الأخ الذي تسبَّب في الفُرقة أن يتقي الله تعالى ربَّه، وأن يدع عنه تلك المسوغات لإنشاء مسجد ثانٍ، وإقامة جمعة أخرى، وبما أن المسجد قد أُقيم: فالمرجو من الأخ ترك إقامة الجمعة، والعيد، في المسجد الجديد، والعودة بنفسه، وبالمصلين معه إلى الجماعة الأم، والمسجد الأول؛ حتى تجتمع الكلمة، وينجو من إثم التسبب في تفرق المسلمين، خاصة وأنتم في بلاد غُربة، بين ظهراني قومٍ كافرين.

– ونسأل الله أن يصلح أحوالكم، ويهدي قلوبكم، وأن يجمع كلمتكم على الحق والهدى.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة