الرد على من زعم أن معنى ( وَفِّرُوا اللِّحَى ) يصدق على من أخذ منها!

السؤال

جاء أحد المشايخ ودحض فكرة عدم جواز الأخذ من اللحية، حيث استدل بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وفّروا اللحى … ) لا يقصد به هنا عدم الأخذ مطلقًا؛ لأن الشخص قد يكون له مال مُدخر في البنك، وقد يكثر هذا المال أو يقل، وفي كلتا الحالتين يُعتبر موفرًا، ويستطيع أن يقول إنه وفّر ماله في البنك حتى لو لم يكن المبلغ الموفّر إلا ريالًا واحدًا، فما قولكم في هذا؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

نأسف أن يكون مثل هذا التمحل في مناقشة الأدلة الشرعية من قبَل بعض المشتغلين بالعلم، وقد قرأنا في الآونة الأخيرة عبثًا كثيرًا باسم العلم الشرعي من أجل الوصول إلى إباحة الأخذ من اللحية ولو دون القبضة، وإلى إباحة المعازف والغناء ولو كانت المغنية – أو المغني – من أفجر خلق الله! حتى إنك لترى بعض أولئك يلبسون البنطال الضيق، ويقصون لحاهم إلى أدنى درجة، ثم تراه مستمتعًا بسماع أغنية من فاجر أو فاجرة، فهل مثل هؤلاء يؤمنون على دين الله أن ينسبوا له حكمًا؟!.

ثانيًا:

ونرد على ذلك المتمحل من وجهين، شرعي، ولغوي:

أما الوجه الشرعي: فنقول له: هب أنك نجحت في تحريف هذه اللفظة النبوية (وفِّروا) فماذا أنت صانع بأخواتها ( أعفوا ) و ( أرخوا ) و ( أرجوا ) و ( أوفوا ) وكلها ألفاظ نبوية جاءت في أحاديث صحيحة تحمل المعنى نفسه وهو ترك اللحية وعدم التعرض لها بحلق أو قص؟!.

قال النووي – رحمه الله -:

وأما ( أوفوا ) فهو بمعنى ( أعفوا ) أي: اتركوها وافية كاملة، لا تقصوها … .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأرخوا ) معناه: أخروها، واتركوها، وجاء في رواية البخاري – ( 5553 ) -: ( وفِّروا اللحى )، فحصل خمس روايات: ( أعفوا، وأوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفروا ) ومعناها كلها: تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا، وغيرهم من العلماء. ” شرح مسلم ” ( 3 / 142 و 143 ).

وقد جاءت هذه الكلمة ببعض مشتقاتها بما يدل على معناها في كتاب الله تعالى:

قال تعالى : ( قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ) الإسراء/ 63 .

قال الطبري – رحمه الله -:

( جزاءً موْفُورًا ): يقول : ثوابًا مكثورًا مكملًا.

” تفسير الطبري ” ( 17 / 490 ).

وقال ابن كثير – رحمه الله -:

قال مجاهد: وافرًا، وقال قتادة: مُوَفّرا عليكم، لا ينقص لكم منه.

” تفسير ابن كثير ” ( 5 / 93 ).

فالمعني الشرعي لكلمة ” وفر ” – وهو موافق لمعناها اللغوي -: التكثير، وعدم الإنقاص، وهو يطابق ما ذكرناه من معنى الحديث، وأنه لا يجوز إنقاص شعر اللحية بالأخذ منه.

وأما الوجه اللغوي: فنقول له: إنك لم تصب في قولك ذاك من جهتين:

الجهة الأولى: أنك خالفت المعنى اللغوي للفظة ( وفِّروا )، فجعلت اللفظة تصدق على أخرج شعيرات في وجهه وقضى على غيرها، وهذا تحريف لمعنى تلك اللفظة من حيث وضعها اللغوي الدال على ” الكثرة ” وهذا يقتضي الإبقاء عليها وعدم الأخذ منها حتى تصير وافرة موفورة.

قال بدر الدين العيني – رحمه الله -:

وقوله ( وفِّروا ) بتشديد الفاء: أمرٌ من التوفير، وهو الإبقاء، أي: اتركوها موفرة. ” عمدة القاري شرح صحيح البخاري ” ( 22 / 46 ).

وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

أما قوله وفروا فهو بتشديد الفاء من التوفير وهو الإبقاء أي اتركوها وافرة.

” فتح الباري شرح صحيح البخاري ” ( 10 / 350 ).

ومثله يقال في باقي ألفاظ الحديث، ولنذكر مثالًا على ذلك لفظة ( أعفوا )، وذلك من كلام أهل اللغة:

قال ابن منظور – رحمه الله -:

وعَفا القومُ: كَثُرُوا، وفي التنزيل ( حتى عَفَوْا ) أَي: كَثُرُوا، وعَفا النَّبتُ والشَّعَرُ وغيرُه يَعْفُو فهو عافٍ: كثُرَ وطالَ، وفي الحديث ” أَنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بإعْفاء اللِّحَى ” هو أَن يُوفَّر شَعَرُها ويُكَثَّر ولا يُقَصَر كالشَّوارِبِ، من عَفا الشيءُ: إذا كَثُرَ. ” لسان العرب ” ( 15 / 72 ).

وأما الجهة الثانية: فنقول له: إنك جئت للفظة ” التوفير ” بمعنى عامي لا يوافق الواقع اللغوي للكلمة، بل حتى لو وافقها فإنه لا يؤدي لأن تدل على مقصودك، وبيان ذلك:

أن لفظة ” التوفير ” في البنك التي جعل ذلك الشيخ! معناها يصدق على من وضع ريالًا في حسابه: غير موافقة لمعناها اللغوي، وأن اللفظة اللغوية المناسبة والمستعملة على وجهها الصحيح هو ” الادخار “!.

وحتى على المعنى الخطأ الذي استعملها ذلك الشيخ فيه فإنه يرد عليه بها؛ وذلك أن معنى ” التوفير ” في حالة ” الادخار ” في البنك هو ” التكثير “! فمن رغب بالتوفير فهو يعني الجمع بلا حد! والتكثير لماله، فتبين أنه لم يصب لا في استعمال الكلمة بمعناها اللغوي، ولا بمعناها العرفي، بل قد انقلب استدلاله عليه!، وحتى على المعنى الآخر الشائع لدى العامة للفظ ” التوفير ” بمعنى ” الاقتصاد ” و ” التقتير ” فإنه يمكن توجيهه على المعنى الصحيح للفظة وهو ” التكثير “! فهم يوفرون في النفقة لتكثر أموالهم!.

وننقل الآن كلامًا لأحد المختصين باللغة العربية ليرد على ذلك الشيخ، وذلك ببيان معنى كلمة ” التوفير ” لغة ، وعرفًا، ووجه الخطأ في الاستعمال وصوابه:

قال الأستاذ الدكتور مكّي الحسَني الجزائري – وفقه الله -:

جاء في معاجم اللغة وكتبها:

أ. وَفَرَ الشيءُ يَفِرُ وَفْرًا و وُفُورًا: كَثُر واتسع فهو وافر ( واسم التفضيل أوفر؛ يقال: فلانٌ أوفرُ من فلانٍ حظًّا في النجاح ).

فالوَفْر: مصدرٌ بمعنى الكثرة والاتساع، كالوفرة، ويوصف به فيقال: مالٌ وَفْرٌ، ومتاعٌ وَفْرٌ: أي كثير واسع، كالوافر ( ومن المولَّد: الوفير بمعنى الوافر ).

والوَفْر: الغنى [ تستعمل العامة ( الوفر ) بمعنى ما اقتُصد، ما أمكن استبقاؤه وعدم إنفاقِه / استهلاكه، ونرى أنْ لا أثَرَ لهذا المعنى في اللغة ].

قال الجاحظ ( البخلاء / 264 ): ” … ومَن كان سببًا لذهاب وَفْرِه: لم تعدَمْه الحَسْرةُ من نفسه، واللائمة من غيره، وقلّة الرحمة وكثرة الشماتة “. [ وَفْرِه: سَعَتِه].

أما الموفور (الوافر ) فهو التام من كل شيء، يقال: أتمنى لكم موفور الصحة.

ب. وَفَّرَ الشيءَ توفيرًا: كَثَّره.

وَفَّر لفلانٍ طعامه: كَمَّلَه ولم يَنْقُصْه وجَعَلَه وافرًا.

وفّر له الشيءَ توفيرًا: إذا أَتَمَّه ولم يَنْقُصه.

جاء في ( محيط المحيط ): ” والعامة تستعمل ( التوفير ) في النفقة بمعنى التقتير، وضد الإسراف “.

أقول: بل الشائع لدى العامة الآن هو استعمال ( التوفير ) بمعنى الاقتصاد في النفقة واختصارها ( لا التقتير ).

ويمكن توجيه هذا الاستعمال، باعتبار أن الاقتصاد في النفقة يُوفِّر ( يُكثِّر ) الباقي في حوزة المنفِق … .

ج – تَوَفَّر الشيءُ ( مطاوع وَفَّر ): إذا تَحَصَّل دون نقص.

ومن المجاز: توفّر على كذا: صرف هِمَّته إليه. تَوَفَّر على صاحبه: رَعَى حُرُماتِه وبَرَّه. ( ” وأرجو مخلصاً أن يتوفر المؤتمر على حلّ هذه المشكلة “، الكلام موجَّه إلى مؤتمر مجمع القاهرة ).

حكى صاحب الأغاني قَوْلَ بشّار: ” إن عدم النظر يُقوِّي ذكاء القلب، ويقطعُ عنه الشغل بما ينظر إليه من أشياء، فيَتَوفَّر حِسُّه “.

وقال المرتضى في أماليه: ” فيتَوفَّرُ اللبنُ على الحَلْب “.

وقال أبو علي المرزوقي في شرح الحماسة: ” وإن العناية متوفّرة من جهتهم “.

وقال أبو حيّان التوحيدي في مُقابساته: ” ولهذا لا تتوفَّر القُوَّتان للإنسان الواحد “.

وبهذا يستبين أن: ( تَوَفَّر الشيءُ ) يعني: وَفَرَ وتَجَمَّع … .

د. تَوافَرَ الشيءُ: تَوَافُرًا: كَثُر واتسع فهو وافر.

جاء في معجم ( متن اللغة ): ” وهُم متوافرون: هُم كثير، أو فيهم كَثْرة، متكاثرون “.

انتهى باختصار من مقال بعنوان: ” نحو إتقان الكتابة باللغة العربية ” ( مقالة رقم 4).

وقد ذكر الكاتب في آخر مقاله استعمالات للكلمة جانبها التوفيق، وذكر الصواب في استعمالها، ومنها:

قولهم: ” كان همّه أن يوفر أكبر قدْرٍ من دخله “.

والصواب:

كان همه أن يدّخر / يستبقي / يستفضل / أكبر قدر من دخله.

وقولهم: ” استطاع أن يوفر هذا المبلغ الضخم في سنة واحدة

والصواب:

استطاع أن يقتصد / يدّخر هذا المبلغ الضخم في سنة واحدة.

انتهى.

وكما لاحظنا فإن استعمالات كلمة ” وفَّر ” ومشتقاتها لم تخرج عن الاتساع والكثرة وعدم الإنقاص.

به يتبين أن قول الشيخ الذي نقله عنه الأخ السائل لا يصح شرعًا، ولا لغة، وأن الاستعمال العرفي له خطأ، ويمكن توجيهه بما يوافق المعنى الشرعي واللغوي له.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة