كيف نفهم معنى كون الحرم آمنًا لمن دخله مع وجود ما حصل فيه من قتل وإيذاء؟
السؤال
هناك عدة آيات في القرآن تتحدث عن أمن مكة كالآية التي تقول بأن مكة هي البلد الأمين، ولا أتذكر ما إذا كان حديث وآية قرآنية أيضًا التي تقول بأن من دخل مكة كان آمنًا، وقيل أيضا في أحد الأحاديث بأن الدجال لن يتمكن من دخول مكة، وبأن الملائكة تحرس طرق الدخول للمدينة، ولهذا فبوجه عام يمكنني الفهم بأن المقصود بأمن مكة هو الأمن المادي الذي يكفله الله سبحانه وتعالى، لكني مع هذا أشعر بأنه يمكن أن يكون استنتاج خاطئ لأنه حدث في الماضي قتال داخل مكة، وقد روي عن قتل مسلمين داخل الكعبة المشرفة.
ولهذا فإن السؤال هو: هل ” الأمن ” المذكور في القرآن والسنَّة يعنى: تحريم القتل داخل المنطقة الحرام وليس وعداً بأمن مادي؟.
وأنا – والحمد لله – أبعد ما أكون عن الشك في مصداقية وعود الله – والعياذ بالله – لكني فقط غير متأكد من الفهم الصحيح للمعنى.
الجواب
الحمد لله
أولًا:
ما ذكرتَه أخي السائل في مقدمة سؤالك قد جاء النص عليه في الكتاب والسنَّة الصحيحة، وإليكه بترتيبك:
- قال تعالى ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) التين/ 1 – 3.
* قال البيضاوي – رحمه الله -:
( وهذا البلد الأمين ) أي: الآمن، من أمُن الرجل أمانة فهو أمين، أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله، والمراد به مكة. ” تفسير البيضاوي ” ( 5 / 507 ).
- ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ . فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) آل عمران/ 96، 97.
- عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ). رواه البخاري ( 1782 ) ومسلم ( 2943 ).
– النقاب: الطرق.
ثانيًا:
والأمن الذي ذكره الله تعالى من خصائص بيته المحرَّم قد ذكر العلماء رحمهم الله له معانٍ كثيرة، منها الضعيف، ومنها القوي المقبول.
ومن أضعف الأقوال: قول من قال إن من دخل الحرم أمِن من عذاب الآخرة!.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
ومَن ظن أنَّ مَن دخل الحرم كان آمناً من عذاب الآخرة مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها ومع ارتكاب المحارم: فقد خالف إجماع المسلمين، فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين مَن هو مِن أهل النار بإجماع المسلمين. ” مجموع الفتاوى ” ( 18 / 344 ).
وأشهر معاني ” الأمن ” المقبولة:
- أن الأمن في الحرم في الجاهلية، وهو الأمن على النفس للداخل فيه، من القتل والإيذاء من الجبابرة، وممن هو فيه من الناس كولي من قتله، وأيضًا: الأمن على البيت الحرام أن يصيبه خسف أو هدم عقوبة من الله تعالى، وهو ما امتنَّ الله تعالى به على أهل الحرم في الجاهلية.
قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت/ 67.
* قال الإمام الطبري – رحمه الله -:
يعني بقوله ( آمِنًا ): آمنًا من الجبابرة وغيرهم، أن يُسلَّطوا عليه، ومِن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان، من خسف، وائتفاك، وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته – أي: عقوباته – التي تصيب سائر البلاد غيره.
” تفسير الطبري ” ( 2 / 44، 45 ).
– والائتفاك : هو العذاب الشديد.
وقد ذكر ابن العربي المالكي رحمه الله في معنى ” الأمن ” أقوالًا، منها:
الثاني: معناه من دخله كان آمنًا من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحقٍّ يكون لها عليه. ” أحكام القرآن ” ( 1 / 69 ).
وهو القول الذي رجحه، قال:
والصحيح فيه: القول الثاني، وهذا إخبار من الله تعالى عن منَّته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه; إجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، فدعا أن يكون أمنا لهم فاستجيب دعاؤه.
” أحكام القرآن ” ( 1 / 69 ).
ولمَّا كان الحرم آمنًا جاءت أهلَه الثمرات من كل مكان، رزقًا من رب العالمين، واستجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام.
قال تعالى: ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ) القَصَص/ 57.
- أن الأمن المراد في الآية الثانية المذكورة سابقًا أنه خبر بمعنى الإنشاء، والإنشاء هنا هو الأمر بتأمين من يدخل الحرم، فليس خبرًا مجردًا كما هو الحال في وصفه أيام الجاهلية، أو في آخر الزمان أنه يأمن فيه داخله من الدجال.
ولا أحد ينكر ما حصل في الحرم لبيته ولأهله، من الهدم والقتل، وحاشاه أن يكون خبرًا مجرَّدًا في الإسلام والواقع يشهد بعدم وجود أمان لمن دخله في أزمان عديدة.
وكلا المعنيين يحتمله قوله تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ) البقرة/ 125.
* قال الطاهر بن عاشور- رحمه الله -:
والمراد من ” الجعل ” في الآية: إما الجعل التكويني؛ لأن ذلك قدَّره الله، وأوجد أسبابه، فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية، ويسَّرهم إلى تعظيمه.
وإما ” الجعل “: أن أمر الله إبراهيم بذلك، فأبلغه إبراهيم ابنَه إسماعيل، وبثه في ذريته، فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلَّمة، فدام ذلك الأمن في العصور، والأجيال، من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان، وتم مراد الله تعالى.
فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف، في حصار ” الحجَّاج ” في فتنة ” ابن الزبير “، ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن ” القرامطة ” حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي – نسبة إلى بلدة يقال لها جنَّابة، بتشديد النون – كبير القرامطة، إذ قتل بمكة آلافًا من الناس، وكان يقول لهم: ” يا كلاب، أليس قال لكم محمد المكي: ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) آل عمران: من الآية 97، أيُّ أمنٍ هنا؟! “، وهو جاهل غبي؛ لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنًا في مدة الجاهلية، إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم، أو هو خبر مراد به الأمر مثل (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) البقرة/ 228.
” التحرير والتنوير ” ( 1 / 690، 691 ).
فتحصَّل لنا أن معنى ” الأمن ” في الحرم:
- أن يكون خبرًا مجردًا، وله أحوال:
أ. أمن البيت في الجاهلية من الهدم والغرق والخسف.
ب. أمن أهله في الجاهلية من القتل من الجبابرة، وأمن داخله من الناس، فكان الرجل يرى قاتل والده ولا يمسه بسوء ولا يخيفه.
ج. أمن أهله في الإسلام من فتنة الدجال.
- أن يكون خبرًا بمعنى الإنشاء، والمراد به: الأمر بتأمين من كان فيه من الناس داخله.
ونرجو بما قلناه أن يكون قد زال عندك الإشكال في معنى ” الأمن ” في الحرم، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى.
والله أعلم.


