ما صحة قول: ” لا يمكن أن يظهر التأثير الحقيقي على المسلمين إلا إذا عادوا من الحج “.

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله

– أرجو أن تخبرني بقول (علماء) المسلمين حول هذا السؤال:

عندما يرجع المسلمون من الحج، فيمكن عندها فقط أن نعرف التأثير الحقيقي (عليهم)!.

الجواب

الحمد لله

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه ، وذلك أن تأثير الحج على الناس يختلف باختلافهم ، فمنهم من يتأثر به لأنه أداه على وجهه الصحيح ، وكان معظما لشعائر الله ، ومنهم من لم يتأثر لا وهو هناك ولا بعد رجوعه من حجه . وهذا مُشاهد ولا ريب فيه :

فأما من علم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج يكفر ما سبق من السيئات وأن أهله يرجعون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم : فهذا لا شك أنه سيؤدي حجه على أحسن وجه يكون ، وسيحرص على أن يكون بعده أفضل مما كان قبله .

وبعض الناس لا يعلم هذه الحقيقة الشرعية ، أو يعلمها لكنه يغفل عنها ولا يوفق لتحقيقها ، فقد رأينا في الحج هناك من بعض الناس من يزاحم في المناسك ويقاتل عليها ، ومنهم من يتحرش بالنساء ويتلمس أجسادهن ، ومنهم من يسرق أموال الحجيج ، ومنهم من يبتدع أشياء في المناسك ما لم يأذن به الله ، ومنهم من يكشف عورته أمام المسلمين ، بل منهم من سب الله ودينه – عياذاً بالله – .

فكيف يرجى من هؤلاء – وهم للأسف من الكثرة بمكان – أن يتأثر أحدهم بالحج ومناسكه سواء وهو هناك أو بعد رجوعه إلى بلده ؟ وعلى كل حال :

فإننا نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ليستشعروا عظمة دينهم ، وحكمة تشريع ربهم ، وأن يكون للعبادات التي أمرهم الله بها أثر على سلوكهم وحياتهم ، ومن أعظم هذه العبادات : الصلاة والحج .

فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والحج فيه تذكر لأحداث عظيمة مع أبينا إبراهيم وهاجر وابنها إسماعيل وغيرها من الأشياء مما لو تفكر فيه العبد لأحدث لذلك أثراً عظيماً في حياته وسلوكه .

يرجى مراجعة أسئلة سابقة فقد ذكرنا هناك أثر الحج على نفس المسلم .

فإن لم يكن الجواب قد ذكر ، فها هو هنا :

لأداء مناسك الحج فضائل متعددة وحِكَم بالغة من وفق لفهمهما والعمل بها وفق لخير عظيم، وسنحاول هنا ذكر ما تيسر :

  1. سفر الإنسان إلى الحج لأداء المناسك : يتذكر سفره إلى الله والدار الآخرة ، وكما أن في السفر فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن ؛ فإن السفر إلى الدار الآخرة كذلك .
  2. وكما أن الذاهب في هذا السفر يتزود من الزاد الذي يبلغه إلى الديار المقدسة ، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه من الزاد ما يبلغه مأمنه ، وفي هذا يقول الله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } [ البقرة / 197 ] .
  3. وكما أن السفر قطعة من العذاب فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وأعظم منه بمراحل ، فأمام الإنسان النزع والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار ، والسعيد من نجَّاه الله تعالى .
  4. وإذا لبس المحرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به ، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب ، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب ، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية .
  5. وإذا قال في الميقات ” لبيك اللهم لبيك ” فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى ، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يقل لربه بها “لبيك اللهم لبيك ” يعني : استجبت لنهيك لي عنها وهذا أوان تركها ؟
  6. وتركه للمحظورات أثناء إحرامه ، واشتغاله بالتلبية والذكر : يبين له حال المسلم الذي ينبغي أن يكون عليه ، وفيه تربية له وتعويد للنفس على ذلك ، فهو يروض نفسه ويربيها على ترك مباحات في الأصل لكن الله حرمها عليه ها هنا فكيف أن يتعدى على محرمات حرمها الله عليه في كل زمان ومكان ؟.
  7. ودخوله لبيت الله الحرام الذي جعله الله أمناً للناس يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأنه لا يحصله الإنسان إلا بكد وتعب، وأعظم ما يؤمن الإنسان يوم القيامة التوحيد وترك الشرك بالله، وفي هذا يقول الله تعالى{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}[ الأنعام/ 81 ] .

وتقبيله للحجر الأسود وهو أول ما يبدأ به من المناسك يربي الزائر على تعظيم السنة ، وأن لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر ، ويعلم أن ما شرع الله للناس فيه الحكمة والخير ، ويربي نفسه على عبوديته لربه تعالى ، وفي هذا يقول عمر رضي الله عنه بعد أن قبَّل الحجر الأسود: ” إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلُك ما قبلتك ” . رواه البخاري ( 1520 ) ومسلم ( 1720 ) .

  1. وفي طوافه يتذكر أباه إبراهيم عليه السلام ، وأنه بنى البيت ليكون مثابة للناس وأمناً ، وأنه دعاهم للحج لهذا البيت ، فجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الناس لهذا البيت أيضاً ، وكذا كان يحج إليه موسى وعيسى عليهما السلام ، فكان هذا البيت شعاراً لهؤلاء الأنبياء وملتقىً لهم ، وكيف لا وقد أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببنائه وتعظيمه .
  2. وشربه لماء زمزم يذكره بنعمة الله تعالى على الناس في هذا الماء المبارك والذي يشرب منه ملايين الناس على مدى دهور طويلة ولم ينضب ، ويحثه على الدعاء عند شربه لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ” أن ماء زمزم لما شرب له “. رواه ابن ماجه ( 3062 ) وأحمد ( 14435 ) وهو حديث حسن حسَّنه ابن القيم رحمه الله في ” زاد المعاد ” ( 4 / 320 ).
  3. ويعلمه السعي بين الصفا والمروة عظيم تحمل أمنا هاجر للابتلاء، وكيف أنها كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثاً عن نفسٍ تخلصها مما هي فيه من محنة وخاصة في شربة ماء لولدها الصغير- إسماعيل – ، فإذا صبرت هذه المرأة على هذا الابتلاء ولجأت لربها فيه فأن يفعل المرء ذلك أولى وأحرى له ، فالرجل يتذكر جهاد المرأة وصبرها فيخفف عليه ما هو فيه ، والمرأة تتذكر من هو من بنات جنسها فتهون عليها مصائبها .
  4. والوقوف بعرفة يذكر الحاج بازدحام الخلائق يوم المحشر ، وأنه إن كان الحاج ينصب ويتعب من ازدحام آلاف فكيف بازدحام الخلائق حفاة عراة غُرْلا – غير مختونين – ؟
  5. ومثل ما قلنا في تقبيل الحجر الأسود نقول في رمي الجمار حيث يعود المسلم نفسه على الطاعة المجردة من ربط الأحكام بعللها ، وفي هذا إظهار للعبودية المحضة .
  6. وأما ذبح الهدي فيذكره بالحادثة العظيمة في تنفيذ أبينا إبراهيم لأمر الله تعالى بذبح ولده البكر إسماعيل بعد أن شبَّ وصار مُعِيناً له ، وأنه لا مكان للعاطفة التي تخالف أمر الله ونهيه ، ويعلمه كذلك خلق الاستجابة لما أمر الله بقول الذبيح إسماعيل { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات / 102 ] .
  7. فإذا ما تحلل من إحرامه وحلَّ له ما حرمه الله عليه : رباه ذلك على الصبر ، وأن مع العسر يسراً ، وأن عاقبة المستجيب لأمر الله الفرح والسرور وهذه فرحة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوة الطاعة ، كالفرحة التي يشعرها الصائم عند فطره ، أو القائم في آخر الليل بعد صلاته .
  8. وإذا انتهى من مناسك الحج وجاء به على ما شرع الله وأحب ، وأكمل مناسكه رجا ربه أن يغفر له ذنوبه كلها كما وعد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ” مَن حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ” ، رواه البخاري ( 1449 ) ومسلم ( 1350 ) ، ودعاه ذلك ليفتح صفحة جديدة في حياته خالية من الآثام والذنوب .
  9. وإذا رجع إلى أهله وبنيه وفرح بلقائهم ذكره ذلك بالفرح الأكبر بلقائهم في جنة الله تعالى ، وعرَّفه ذلك بأن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة ، كما قال تعالى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } [ الزمر / 15 ] .

هذا ما تيسر ذكره.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة