#من_أجوبة_الواتس
السؤال:
ما حكم القول عن صحابي بأنه من “أهل البدع والأهواء” لأجل معصية صدرت منه؟
الجواب:
هذا الكلام في المقطع للشيخ الفاضل (أكرم زيادة) – وفقه الله – ليس صوابا، ويظهر ذلك من عدّة وجوه:
١. خطأ وصف الصحابة بأهل الأهواء:
إن إطلاق وصف “أهل الأهواء والبدع” على صحابي جليل لا يجوز، لا ابتداء ولا انتهاء، فإن الله تعالى عصم الصحابة رضي الله عنهم من أن تجتمع فيهم البدعة بعد الإيمان، فقد يُفتن أحدهم فيرتدّ ثم قد يعود، أما البدعة في الدين فلم تقع منهم بعد ثبوت الصحبة؛ صيانة للدين الحنيف، وليس لأن الردة أعظم من البدعة، وإنما لأن البدعة تفسد الدين من داخله.
[ينظر مقطع الفيديو لي مع المنشور].
وأهل الأهواء والبدع في اصطلاح أهل السنة هم “الفرق المخالفة لأهل الحق في الاعتقاد” (كالخوارج، والرافضة، والقدرية…)، وليس من عصى أو تخلّف عن واقعة أو اجتهد فأخطأ يكون مبتدعا.
٢. حال كعب بن مالك رضي الله عنه:
كعب بن مالك رضي الله عنه صحابي، من كبار الأنصار، مشهور بالإيمان الصادق، شهد بيعة العقبة، وثبتت توبته بنص القرآن: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا… ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨].
فالله عز وجل قد تاب عليه ورضي عنه، فكيف يُوصف بعد ذلك بأنه من “أهل الأهواء”؟! فلا يقبل هذا لا مطلقا ولا حتى “في هذه الحادثة”.
٣. خطأ استعمال مصطلح “أهل الأهواء” مع الصحابة:
ما وقع من كعب بن مالك لم يكن “هوىً مبتدعًا” بل كان “ضعفًا بشريًّا” ، فهو لم يتخلّف عن الغزوة نفاقا أو اتباعًا لبدعة، وإنما تثاقل وضعف كما قال هو بنفسه.
وزكّاه النبي ﷺ فقال “أما هذا فقد صدق” حين اعترف ولم يعتذر بالكذب.
قال كعب: “والله ما أنعم الله عليّ بعد أن هداني للإسلام نعمةً أعظم في نفسي من صدقي يومئذٍ؛ أني لم أكن كذبتُ النبي ﷺ فأهلك كما هلك الذين كذبوه…”
وقال: “فوالله ما تعمّدتُ كذبةً منذ ذكرت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.”.
فالذنب كان تقصيرًا بشريًّا لا بدعة عقديَّة.
٤. التوبة لا تختص بالكبائر:
قول الشيخ الفاضل – وفقه الله – “كان من أهل الأهواء في هذه الحادثة” استعمال في غير محله للمصطلح.
فـ”الهوى” في اللغة والشرع: الميل والرغبة، لكن عبارة “أهل الأهواء” في كتب العقيدة مصطلح خاص يدل على الانحراف في الاعتقاد.
والخلط بين الاستعمال اللغوي والاصطلاحي هو ما أوقع الشيخ في هذا الإشكال.
ولو قال مثلًا: (اتّبع هواه في هذه الحادثة) لكان صحيحًا لغويًّا، لكن قوله “من أهل الأهواء” يجعل المعنى عقديّا، وهو خطأ كبير في حقّ صحابي جليل.
٥. قول الشيخ – وفقه الله – “التوبة تكون من ماذا؟ من الكبائر، فهذه كانت كبيرة، فهو في هذا الحال كان على كبيرة”: غير صحيح، ولو تجاوزنا وصف فعل كعب بن مالك بأنه “كبيرة”، فإن القول بأن التوبة لا تكون إلا من فعل”كبيرة” ليس صوابا.
فالتوبة واجبة على الفور من جميع الذنوب، كبيرها وغيرها.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور/ ٣١].
قال القرطبي:
وَالْمَعْنَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنَّكُمْ لَا تَخْلُونَ مِنْ سَهْوٍ وَتَقْصِيرٍ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَتْرُكُوا التَّوْبَةَ فِي كُلِّ حَالٍ.
“تفسير القرطبي”.
وقال النبي ﷺ:”يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مئة مرة.” (رواه مسلم).
والنبي ﷺ معصوم من الكبائر، ومع ذلك يتوب مئة مرة يوميًّا، والتوبة كما تكون عن التقصير والمعصية والخطأ، تكون كذلك عن القصور وعدم الوفاء بحق الله وما يستحقُّه من الإجلال والتعظيم، والشُّكر والثّناء، ويتوب من الغفلة، ومن التقصير في حقّ الله بالنسبة لمقامه العالي، وهذا هو معنى توبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ذكره العلماء.
فهذا نصّ صريح أن التوبة لا تختصّ بالكبائر.
قال النووي -رحمه الله-:
“واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة”. “شرح مسلم”.
والله أعلم
كتبه:
إحسان العتيبي أبو طارق، ٣ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ، ٢٥/ ١٠ / ٢٠٢٥
#تابع
(تعليق على بيان الشيخ الفاضل (أكرم زيادة) في مسألة كعب بن مالك رضي الله عنه)
أصدر الشيخ الفاضل (أكرم زيادة) بيانًا علّق فيه على الردود التي وُجهت إليه بسبب كلامه عن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، وقد تناول في بيانه موقفه العام من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أمر لا ينازعه فيه أحد ممن يعرف سيرته وسلفيته.
إلا أن موضع النقد لم يكن في هذا، وإنما في كلامه الذي جعل فيه كعبًا بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع – رضي الله عنهم – من أهل الأهواء والبدع، وذلك بسبب المعصية التي وقعت منهم حين تخلّفوا عن غزوة تبوك.
كنا نود من الشيخ الكريم أن يعترف بأن في كلامه سبقَ لسانٍ أو خللَ فهمٍ، فيُغلق الباب ويضرب المثل في الرجوع إلى الحق، كما كان يفعل أئمة الدعوة والعلم، وفي مقدمتهم الإمام الألباني رحمه الله الذي عُرف بجرأته على التراجع عن خطئه ولو اشتهر قوله وانتشر في الكتب والأشرطة.
لكن الشيخ – وفقه الله – لم يبدِ تراجعًا، بل أصر على قوله ورأى أنه لم يخطئ في شيء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نسب فهمه ذاك إلى الإمام أبي داود السجستاني صاحب “السنن”، فقال في بيانه:
“وعلى منهج أبي داود في كتاب السنة من سننه القائل: باب اجتناب أهل الأهواء والبدع وبغضهم.
وحيث أورد تدليلاً على فهمه وتبويبه حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك قائد أبيه بعدما عمي وذهب بصره رقم (٤٦٠٠) … وكان كلامي وتعليقي على تبويب أبي داود وفهمه ودليله في هذه الجزئية…
والخلاصة: لم ولن أخطئ في حق أي صحابي أبداً، ولن أعتذر عن منهج قويم سليم تشربته من أهل العلم السابقين واللاحقين.”
انتهى المراد من كلامه.
#والتعليق عليه:
#أولاً: في نسبة الحكم إلى تبويب أبي داود
في كلام الشيخ – سدده الله – منازعة في معرفة حقيقة مراد تبويب أبي داود ، حيث نسب إلى أبي داود أنه حكَم على المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم من أهل الأهواء والبدع بسبب تبويبه المذكور.
وهذا الفهم ليس صوابا، ويتضح وجه عدم صوابه في أمور:
١. إن تبويب أبي داود لا يفيد الحكم على الصحابة بالبدعة، وإنما أراد به الاستدلال على حكم هجر المبتدع بما هو أدنى منه، أي من وقع في معصية، ليُقاس عليها ما هو أشد منها.
قال الإمام القرطبي المحدث في “المفهم شرح مسلم”:
«فيه دليل على وجوب هجران من ظهرت معصيته فلا يُسلَّم عليه حتى يُقلع ويُظهر توبته.»
٢. أبو داود عقد بعد ذلك بابًا آخر بعنوان:
«باب ترك السلام على أهل الأهواء»،
فذكر تحته حديثين (وفيهما ضعف، لكن المراد هنا فقه التبويب عليهما) لا علاقة لهما بالبدعة، بل فيهما زجر عن أفعال يسيرة من الخطأ أو المخالفة:
أ. عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه تخلّق بزعفران، فقال له النبي ﷺ:
«اذهب فاغسل هذا عنك»
ولم يردّ عليه السلام.
ب. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ هجر زينب بنت جحش حين قالت في صفية بنت حييّ:
«أأنا أعطي تلك اليهودية؟!»
فغضب النبي ﷺ وهجرها شهرين وبعض صفر.
فهل يصح – والحال كذلك – أن يُقال إن عمارًا وزينب بنت جحش من أهل الأهواء والبدع؟!
حاشاهم من ذلك، وإنما مراد الإمام أبي داود: أنه إذا جاز الهجر في معصية يسيرة كاستعمال الزعفران أو كلمة غير لائقة، فمن باب أولى أن يُهجر صاحب البدعة؛ لما فيها من خطر أعظم.
قال القرطبي المفسر -رحمه الله-:
«وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي كما بينّا، فتجنّب أهل البدع والأهواء أولى.»
“تفسير القرطبي” ، عند قوله تعالى: {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}.
وبهذا يتبين أن باب أبي داود إنما هو قياس تنبيهي لا توصيف حقيقي، فالهجر وارد في حق العاصي، ومن باب أولى في حق المبتدع.
#ثانياً: في فهم العلماء لهذا التبويب
بيّن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري – حفظه الله – في شرحه لهذين البابين هذا المعنى بدقة، فقال ما خلاصته:
«أبو داود من فقهه وعلمه أراد تدريب الطالب على الاستنباط، فذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه – وهو من الصحابة الكرام – تحت باب (مجانبة أهل الأهواء)، وليس المراد أن كعبًا منهم، وإنما ليفيد أن النبي ﷺ هجر من تخلف عن غزوة تبوك وهي معصية، فمن باب أولى أن يُهجر صاحب البدعة.
وكذلك أورد حديث عمار وزينب، وكلاهما ليس من أهل الأهواء، وإنما ليقيس عليه حال المبتدع.»
وهذا هو الفقه الدقيق لمراد الإمام أبي داود، وهو الذي يتفق مع أصول أهل السنة في تنزيه الصحابة رضي الله عنهم عن الأوصاف التي لا تليق بمقامهم.
#ثالثاً: في منهجية النقد والإنصاف
من تمام العلم والديانة أن يُفرّق بين النقد العلمي والقدح الشخصي.
فالشيخ الفاضل معروف بسلفيته وحرصه على السنة، ولا يشك أحد في محبته للصحابة رضي الله عنهم، غير أن الزلة في الفهم أو العبارة لا تُرفع بالمقاصد الحسنة.
والواجب عند الخطأ العلمي هو تصحيحه، لا الإصرار على نسبته إلى الأئمة.
وقد كان من سمت أئمة الحديث والفقه الاعتراف بالخطأ متى ظهر الدليل، كما قال الشافعي رحمه الله:”ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه.”
🌹 #خاتمة:
يتبيّن مما سبق أن تبويب أبي داود على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه لا يتضمن بحالٍ وصف الصحابة بالبدعة أو الهوى، وإنما هو باب فقهي استنباطي يقيس عليه حال من دونه من المذنبين وأهل الأهواء.
ومن تأمل صنيع المحدثين علم أن التبويب وسيلة تعليمية لا حكمٌ مستقلّ بذاته.
نسأل الله أن يوفق الجميع للقول الحق، وأن يجمع القلوب على الهدى والسنة، وأن يجعلنا وإياهم من أهل الإنصاف في العلم والعمل.
والله أعلم
كتبه:
إحسان العتيبي (أبو طارق)
٥ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ – ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥ م

