تعليق على بيان الشيخ الفاضل (أكرم زيادة) في مسألة كعب بن مالك رضي الله عنه

تابع للمقال السابق هنا:
https://www.facebook.com/share/v/1QesE2jZah/
(تعليق على بيان الشيخ الفاضل (أكرم زيادة) في مسألة كعب بن مالك رضي الله عنه)

أصدر الشيخ الفاضل (أكرم زيادة) بيانًا علّق فيه على الردود التي وُجهت إليه بسبب كلامه عن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، وقد تناول في بيانه موقفه العام من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أمر لا ينازعه فيه أحد ممن يعرف سيرته وسلفيته.
إلا أن موضع النقد لم يكن في هذا، وإنما في كلامه الذي جعل فيه كعبًا بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع – رضي الله عنهم – من أهل الأهواء والبدع، وذلك بسبب المعصية التي وقعت منهم حين تخلّفوا عن غزوة تبوك.

كنا نود من الشيخ الكريم أن يعترف بأن في كلامه سبقَ لسانٍ أو خللَ فهمٍ، فيُغلق الباب ويضرب المثل في الرجوع إلى الحق، كما كان يفعل أئمة الدعوة والعلم، وفي مقدمتهم الإمام الألباني رحمه الله الذي عُرف بجرأته على التراجع عن خطئه ولو اشتهر قوله وانتشر في الكتب والأشرطة.
لكن الشيخ – وفقه الله – لم يبدِ تراجعًا، بل أصر على قوله ورأى أنه لم يخطئ في شيء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نسب فهمه ذاك إلى الإمام أبي داود السجستاني صاحب “السنن”، فقال في بيانه:
“وعلى منهج أبي داود في كتاب السنة من سننه القائل: باب اجتناب أهل الأهواء والبدع وبغضهم.
وحيث أورد تدليلاً على فهمه وتبويبه حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك قائد أبيه بعدما عمي وذهب بصره رقم (٤٦٠٠) … وكان كلامي وتعليقي على تبويب أبي داود وفهمه ودليله في هذه الجزئية…
والخلاصة: لم ولن أخطئ في حق أي صحابي أبداً، ولن أعتذر عن منهج قويم سليم تشربته من أهل العلم السابقين واللاحقين.”
انتهى المراد من كلامه.

#والتعليق عليه:
#أولاً: في نسبة الحكم إلى تبويب أبي داود
في كلام الشيخ – سدده الله – منازعة في معرفة حقيقة مراد تبويب أبي داود ، حيث نسب إلى أبي داود أنه حكَم على المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم من أهل الأهواء والبدع بسبب تبويبه المذكور.
وهذا الفهم ليس صوابا، ويتضح وجه عدم صوابه في أمور:
١. إن تبويب أبي داود لا يفيد الحكم على الصحابة بالبدعة، وإنما أراد به الاستدلال على حكم هجر المبتدع بما هو أدنى منه، أي من وقع في معصية، ليُقاس عليها ما هو أشد منها.
قال الإمام القرطبي المحدث في “المفهم شرح مسلم”:
«فيه دليل على وجوب هجران من ظهرت معصيته فلا يُسلَّم عليه حتى يُقلع ويُظهر توبته.»

٢. أبو داود عقد بعد ذلك بابًا آخر بعنوان:
«باب ترك السلام على أهل الأهواء»،
فذكر تحته حديثين (وفيهما ضعف، لكن المراد هنا فقه التبويب عليهما) لا علاقة لهما بالبدعة، بل فيهما زجر عن أفعال يسيرة من الخطأ أو المخالفة:
أ. عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه تخلّق بزعفران، فقال له النبي ﷺ:
«اذهب فاغسل هذا عنك»
ولم يردّ عليه السلام.

ب. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ هجر زينب بنت جحش حين قالت في صفية بنت حييّ:
«أأنا أعطي تلك اليهودية؟!»
فغضب النبي ﷺ وهجرها شهرين وبعض صفر.
فهل يصح – والحال كذلك – أن يُقال إن عمارًا وزينب بنت جحش من أهل الأهواء والبدع؟!
حاشاهم من ذلك، وإنما مراد الإمام أبي داود: أنه إذا جاز الهجر في معصية يسيرة كاستعمال الزعفران أو كلمة غير لائقة، فمن باب أولى أن يُهجر صاحب البدعة؛ لما فيها من خطر أعظم.
قال القرطبي المفسر -رحمه الله-:
«وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي كما بينّا، فتجنّب أهل البدع والأهواء أولى.»
“تفسير القرطبي” ، عند قوله تعالى: {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}.
وبهذا يتبين أن باب أبي داود إنما هو قياس تنبيهي لا توصيف حقيقي، فالهجر وارد في حق العاصي، ومن باب أولى في حق المبتدع.

#ثانياً: في فهم العلماء لهذا التبويب
بيّن الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري – حفظه الله – في شرحه لهذين البابين هذا المعنى بدقة، فقال ما خلاصته:
«أبو داود من فقهه وعلمه أراد تدريب الطالب على الاستنباط، فذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه – وهو من الصحابة الكرام – تحت باب (مجانبة أهل الأهواء)، وليس المراد أن كعبًا منهم، وإنما ليفيد أن النبي ﷺ هجر من تخلف عن غزوة تبوك وهي معصية، فمن باب أولى أن يُهجر صاحب البدعة.
وكذلك أورد حديث عمار وزينب، وكلاهما ليس من أهل الأهواء، وإنما ليقيس عليه حال المبتدع.»
وهذا هو الفقه الدقيق لمراد الإمام أبي داود، وهو الذي يتفق مع أصول أهل السنة في تنزيه الصحابة رضي الله عنهم عن الأوصاف التي لا تليق بمقامهم.

#ثالثاً: في منهجية النقد والإنصاف
من تمام العلم والديانة أن يُفرّق بين النقد العلمي والقدح الشخصي.
فالشيخ الفاضل معروف بسلفيته وحرصه على السنة، ولا يشك أحد في محبته للصحابة رضي الله عنهم، غير أن الزلة في الفهم أو العبارة لا تُرفع بالمقاصد الحسنة.
والواجب عند الخطأ العلمي هو تصحيحه، لا الإصرار على نسبته إلى الأئمة.
وقد كان من سمت أئمة الحديث والفقه الاعتراف بالخطأ متى ظهر الدليل، كما قال الشافعي رحمه الله:”ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه.”

🌹 #خاتمة:
يتبيّن مما سبق أن تبويب أبي داود على حديث كعب بن مالك رضي الله عنه لا يتضمن بحالٍ وصف الصحابة بالبدعة أو الهوى، وإنما هو باب فقهي استنباطي يقيس عليه حال من دونه من المذنبين وأهل الأهواء.
ومن تأمل صنيع المحدثين علم أن التبويب وسيلة تعليمية لا حكمٌ مستقلّ بذاته.

نسأل الله أن يوفق الجميع للقول الحق، وأن يجمع القلوب على الهدى والسنة، وأن يجعلنا وإياهم من أهل الإنصاف في العلم والعمل.

والله أعلم

كتبه:
إحسان العتيبي (أبو طارق)
٥ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ – ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥ م

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
12,400المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة