هل تقرُّ الشريعة ظلمَ الأبوين لأولادهم أم تدفع ذلك؟ وهل يتعارض هذا مع الأمر ببرِّهما؟

السؤال

كثيرًا ما يساورني الشك بأن هناك تناقضًا وتعارضًا بين دعوة الإسلام إلى بر الوالدين وبين دعوته إلى نصرة المظلومين وردع الظالمين! فكيف يتم ردع الظالمين في حالة أن يكون الآباء هم من يظلمون أبناءهم ويعاملونهم معاملة العبيد إضافة إلى قسوتهم عليهم الأمر الذي يولِّد في الأبناء الكراهية والبغض لهم ولدينهم الذي لا يجدوا منه إلا دعوة لأن يبروا من يظلمونهم ويعاملونهم بقسوة دون أن يكون هناك رادع فعَّال وقوي؟!.

أعتقد أنها مسألة مهمة تستحق النظر, وأتمنى أن أكون قد سددتُ السؤالَ إلى الشخص المناسب، فالإجابة عليه تحتاج إلى مزيد من الإقناع، مع العلم بأن هذه المسألة تشغلني منذ فترة ليست بالقصيرة ولم أعثر لها على إجابة.

الجواب

الحمد لله

  1. من الخطأ الاعتقاد بأن ظلم الآباء والأمهات لا تشمله النصوص التي تحرِّم الظلم وتتوعد الظالمين بالعقوبات، بل هم داخلون فيها وتشملهم أحكامها، ولا يجوز لأحدٍ استثناء الوالدين أو غيرهم، وعظم حقِّهم لا يجعلهم غير مشمولين في مثل قوله تعالى (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) الفرقان/ 19 ، وهم داخلون في عباد الله في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ) رواه مسلم ( 2577 )، وهم داخلون في الأمر الوارد في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه مسلم ( 2578 ).
  2. وقد نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تسمية فعل الأب المخالف للشرع بـ ” الجوْر ” أي: الظلم، وأمر بردِّ هذا الظلم ووضع الأمر في نصابه الصحيح.

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سألتْ أمي أبي بعضَ الموهبة لي من ماله ثم بدا له فوهبها لي، فقالت لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأنا غلام فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا قال: ( أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ ) قال: نعم، قال: ( لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرِ ).

وفي رواية ( لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ). رواه البخاري ( 2507 ) ومسلم ( 1623 ).

فأنتَ ترى في هذا الحديث التنصيص على تسمية ظلم الأب لأولاده بما يستحقه، وترى أن الشريعة لم تستثني الوالدين من حكم ووصف وإثم الظلم.

وفي باب الأموال فإنه إن امتنع الأب عن النفقة على أولاده فإن القضاء الشرعي يجبره على تلك النفقة، ويجوز لهم دفع هذا الظلم منه بالأخذ منه دون إذنه.

لذلك فإن كان والدك لا يُنفق على البيت: فإن لها أن تأخذ منه بقدر النفقة فقط.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: ( خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ). رواه البخاري ( 5364 ) ومسلم ( 1714 ).

  1. ومن الخطأ الاعتقاد بأن للأبوين أن يتصرفا كيف شاءا في أولادهما وكأنهم سلعة، بل إن الشريعة المطهرة لها موقفها من ظلم الأب والأم كموقفها من ظلم غيرهما، وما سبق من موقف الشرع من ظلم الوالد في الأموال جاء مثله فيما هو أعظم منه في باب الولاية والنكاح:

أ. فالأب الظالم الذي يمنع ابنته من الزواج من غير سبب شرعي لا شك في استحقاقه إثم الظالمين ودخوله في الوعيد المترتب على فعلهم، وللشريعة موقفها العملي من هذا الظلم وذلك برفع ولاية ذلك الأب الظالم لابنته عنها وجعلها في غيره من الأولياء، وإن لم يكن لها ولي فتكون ولايتها للحاكم المسلم أو من يقوم مقامه.

* قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

أرى أن هؤلاء الذين يمنعون بناتهم من النكاح إلا ببني أعمامهن: أرى أنه ظالم، وأنه معتدٍ، وللبنت أن ترفع الأمر إلى المحكمة، ونقول لهذا الرجل: ليس لك ولاية، أهل العلم يقولون: الرجل إذا منع المرأة أن يزوجها كفئًا رضيَتْه: فإن الولاية تنتقل إلى من بعده، وتسقط ولايته، قالوا: وإذا تكرر ذلك منه صار فاسقاً، والفاسق ضد العدل، … وهؤلاء الظلمة الذين يمنعون بناتهم أن يزوجوهن من أكفاء رضيتْه المرأة: هؤلاء سوف يلقون جزاءهم عند الله يوم القيامة. ” اللقاء الشهري ” ( اللقاء رقم 46 ).

ب. والأب الظالم الذي يزوِّج ابنته البالغة إكراهًا: لها أن ترفع أمرها للقضاء الشرعي لينصفها في زواجها فيخيِّرها بين إمضائه أو إبطاله.

روى البخاري ( 4845 ): خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْي ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَرَدَّ نِكَاحَهُ.

وبوَّب عليه البخاري بقوله: ” باب إذا زوَّج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود “.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه أبو داود ( 2096 ) وابن ماجه (1875 )، وصححه ابن القيم في ” تهذيب السنن ” ( 3/40 ) والألباني في ” صحيح أبي داود “.

* قال ابن القيم – رحمه الله -:

وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر. ” زاد المعاد ” ( 5 / 95 ).

والابن الذي يرغب بالزواج ليس لأبويه أن يجبراه من التزوج بامرأة لا يرغبها، وإذا خالف الابنُ أبويه في هذا لا يكون عاقًّا.

* قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله:

ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح مَن لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًّا، وإذا لم يكن لأحدٍ أن يُلزمه بأكل ما ينفِر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه: كان النكاح كذلك وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعِشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ولا يمكن فراقه . ” مجموع الفتاوى ” ( 32 / 30 ).

وما ذكرناه في أمري الولاية والنكاح هو من المسائل العملية التي حفظ فيها الشرع الحق لصاحبه – وهم الأولاد هنا – وأخذ على يد الظالم – وهم الأب هنا -، والأمثلة كثيرة لو رحنا نذكرها لطال بنا المقام، وفي كلها لا يرضى الله تعالى بظلم الوالدين لأولادهم، بل إنه ليمنعهم من ظلمهم، وإن الشرع ليأخذ على أيديهم، فمَن أخذ من أولاده مالًا بغير وجه حق ردَّته إليه الشريعة، ومن أساء في تربية أولاده نُزعت منه الحضانة، وهكذا في مسائل عملية كثيرة، وأنت تحتاج أن تنظر إليها بعين الإنصاف؛ لتعلم بعدها عظمة التشريعات الربانية، وأنه لا أحكم منها ولا أعدل.

  1. ومما ظهر لنا أنك لم تستطع الجمع بين أمر الشريعة المطهرة ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما بالقول والعمل مع كونهما ظالميْن، وظننتَ أن بينهما تضادًّا، والأمر ليس كذلك، ونحن نذكر لك شيئاً لعله غاب عن ذهنك، وهو أن أعظم الظلم هو أن يزعم أحدٌ أن مع الله آلهة أخرى، ويعظُم الظلم حينما يكون ذلك المشرك داعية لشركه، ويعظم أكثر وأكثر حين يكون المدعوون هم أولاد أولئك المشركين! ومع كل هذا الظلم والإيذاء لله تعالى فإن الله تعالى أمر الأولاد بالإحسان إلى الوالديْن الداعييْن إلى الشرك والمجاهديْن في سبيل تحقيق رغبتهما في تبني أولادهم الشرك وعدم تحقيق التوحيد، قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ) العنكبوت/ 8، وقال تعالى ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ) لقمان/ 15، فها هم الآن الوالدان في غاية الشرك وغاية الظلم ومع ذلك أَمر الله تعالى – الذين آذَوه – بالإحسان إليهم والبرِّ بهم؛ لما لهما من حق على أولادهم، ولما يعلمه الله تعالى من أثر مثل ذلك الإحسان عليهم، فماذا يمكن أن يرى الإنسان من والديه في مقابل ما يراه الله تعالى منهم إن كانوا كفَّارًا مشركين؟! ولهذا لم يكن أحد أصبر على أذى يسمعه من الله جلَّ جلاله.

عن أبي موسى الأشعري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( لَيْسَ أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ ). رواه البخاري ( 5748 ) ومسلم ( 2804 ) – واللفظ له -.

فلعلَّ هذا أن يدعوك إلى مزيد تأمل في أن الشرع لا يقرُّ ظلم الأبوين، وأنه عندما يدعو الأولاد إلى الإحسان لهما والبر بهما فليس يعني هذا بحال إقرار ظلمهما، وقد تبين لك بما لا شك فيه ما جاءت به أحكام الشرع في دفع ظلمهما، ومع هذا أُمر الأولاد بالصبر على والديْهم لما للصبر من جزاء عظيم لفاعله، ولما له أثر حسن على المصبور عليهم.

ونسأل الله تعالى أن نكون قد وفِّقنا في إزاحة الإشكال عنك، وأن نكون أوضحنا أحكام الشرع المطهَّر في تعامل الأولاد مع والديهم الظلمة، وعسى الله تعالى أن يجزي الصابرين على صبرهم، وأن يحقق لهم مقصودهم من هداية والديهم للحق والصواب.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة