هل إعادة الحياة بعد موت بعض الناس ما يناقض أن الموتة واحدة؟

السؤال

بصفتي أدرس الدين المقارن: بماذا أجيب من يسألني سؤالًا حول الآية في الإنجيل التي تقول ” إنه قد كتب على ابن آدم أن يموت مرة واحدة، ثم يأتي الحساب “، مما يعنى أن كل إنسان سيموت مرة واحدة، فماذا أقول إذا سألني أحدهم: لماذا يقول الإنجيل بأن عيسى قد أعاد الحياة إلى ” لزروس “، وبذلك فإنه عند وفاته فإنها ستكون ميتته الثانية؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

لا شك أن مسؤولية المعلّم مسؤولية عظيمة، ومهمته عزيزة؛ فهو المربي، والمعلّم، والقدوة؛ يروي ظمأ طلابه، ويرفع حيرتهم؛ ووظيفته وظيفة الأنبياء والرسل إذا أخلص النية؛ فنسأل الله أن يوفقك لحمل هذه المسؤولية والقيام بحقها، فأجرك عظيم في نصحك وتوجيهك لطلابك.

ثانيًا:

اختص الله تعالى الأنبياءَ بآيات بيّنات، وكانت كل آية مما اشتهر بمثل جنسها أقوامهم، وكانت معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، بإذن من الله تعالى، كما قال: ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران/ 49.

* قال ابن كثير – رحمه الله -:

قال كثير من العلماء: بعثَ الله كل نبيّ من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه؛ فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر، وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيَّرت كلَّ سحَّار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار: انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام: فبُعث في زمن الأطباء، وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث مَن هو في قبره رهين إلى يوم التناد؟! وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بُعث في زمان الفصحاء، والبلغاء، ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعَشر سور من مثله، أو بسورة من مثله: لم يستطيعوا أبدًا .

” تفسير ابن كثير ” ( 1 / 485 ).

وآيات الأنبياء هي خروج عن المألوف، وخرق للعادة؛ تثبيتًا للنبي، وأتباعه، وعلامة على رسالته، وصدقه فيما يدعو إليه.

ثالثًا:

والموت معناه مفارقة الروح للجسد، وليس المقصود بالموت فناء الأرواح، بل المقصود به: أن تفارق الروح الجسد، إما إلى نعيم، وإما إلى عذاب.

وقد كتب الله الموتَ على كل العباد، كما قال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا لبَشَر منْ قَبْلكَ الخُلْدَ ) الأنبياء / 34، وبيّن أن أهل الجنة لا يذوقون موتة غير موتة الدنيا، كما قال تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) الدخان/ 56.

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح تفارق الجسد، وتتصل به أحيانًا، ومفارقة الروح تسمّى موتًا – كما قدمنا -، وليست هي روح حياة بدنه التي كان يحيى بها في الدنيا.

* قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

فالأرواح تعاد إلى بدن الميت، وتفارقه، وهل يسمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان، قيل: يسمَّى ذلك موتًا، وتأولوا على ذلك قوله تعالى: ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ )غافر/ من الآية 11، قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدار، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.

والصحيح: أن هذه الآية كقوله ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) البقرة/ من الآية 28، فالموتة الأولى: قبل هذه الحياة، والموتة الثانية: بعد هذه الحياة، وقوله تعالى: ( ثُمَّ يُحْييكُم ) بعد الموت، قال تعالى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) طـه/ 55، وقال {  قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الأعراف/ 25، فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وتفارقه متى شاء الله تعالى، لا يتوقت ذلك بمرة، ولا مرتين، والنوم أخو الموت، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه: ( باسْمكَ اللهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا ) وكان إذا استيقظ يقول: ( الحَمْدُ لله الذي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإلَيْه النُّشُور ) – رواه البخاري (5953 ) -، فقد سمَّى النوم: موتًا، والاستيقاظ: حياة.

” مجموع الفتاوى ”  ( 4 / 275 ).

رابعًا:

إن عيسى عليه السلام كان من آياته: إحياء الموتى، وهذه الآية من عند الله، قد اختصه بها دون غيره من الأنبياء.

ونحن لا نلتفت إلى ما نقلتَه عن الإنجيل؛ لاعتقادنا بتحريفه من جهة، ولأن ما نَقلته موافق لما عندنا في الشرع، من أن الخلق يموتون موتة واحدة، لا يرجعون بعدها إلى الدنيا؛ لانتقالهم لعالم البرزخ، ولكننا نقول أكثر العمومات له ما يخصصها، وقد اختص الله من عموم منع رجوع الأرواح إلى الأجساد – وهو الموت الحقيقي – بعض الأموات؛ آية على قدرة الحق سبحانه على إحياء الناس جميعًا بعد موتهم، أو آية لنبي – كما خصّ به عيسى عليه السلام – ولا محذور في ذلك؛ لأن هذا الإحياء ورجوع الروح كان بأمر الله تعالى، ومن أمثلة ذلك:

  1. ما جاء في قصة القتيل زمن موسى عليه السلام، وما حصل من إحياء الله تعالى له ليدل على من قتله، قال تعالى: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) البقرة/ 73.
  2. وما حصل من إحياء الله تعالى للرجل الذي أماته – وحماره – مائة عام، ثم أحياه، قال الله تعالى: ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) البقرة/ 259.
  3. وما حصل من إحياء الله تعالى لقوم كثُر، قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) البقرة/ 243.
  4. وما حصل من إحياء الله تعالى لمن أماته من قوم موسى عليه السلام الذين طلبوا منه رؤية ربه تعالى، فأخذتهم الصاعقة، فماتوا، ثم بعثهم الرب تعالى، قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة/ 56.

وهذا كله يضاف إلى ما أخبر الله تعالى به من إحياء عيسى عليه السلام لبعض الموتى بأمر الله تعالى، وكل هذا استثناء من العموم، والأصل، وليس هذا بغريب، ولا عجيب في واقع الحياة، فلو قال قائل إنه لا إنجاب إلا من ذكر وأنثى: لكان صادقًا، بل هو مؤيد بالقرآن والسنَّة، كمثل قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ) الحجرات/ من الآية 13، وقد خُصَّ هذا العموم بآدم عليه السلام الذي خُلق من غير ذكر ولا أنثى، وخُصّت حواء عليها السلام، حيث خُلقت من ذكر بلا أنثى، وخُصَّ عيسى عليه السلام، حيث خُلق من أنثى بلا ذَكر.

وبكل حال:

فالبعث إلى الحياة بعد الموت حصل قطعًا في صور متعددة، وليس هو البعث للحساب، فذام لن يكون إلا مرة واحدة، ولجميع الخلق، فلا يتنافى هذا مع ما ذكرناه من إرجاع الله تعالى بعض الناس إلى الحياة لحكَم جليلة، يكفي منها حكمتان:

  1. إثبات قدرة الله على بعث الخلائق جميعها يوم القيامة، ولذا كانت هذه الصور المستثناة من أعظم الأدلة على البعث، واختصاص الله تعالى به.
  2. جعلها آية على صدق النبي، وأنه مرسل من عند الله تعالى، كما في إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن ربه، وكما في إحياء قتيل قوم موسى.

* قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – بعد أن عدَّد ما في سورة البقرة من مواضع أحيا الله فيها بعض الموتى -:

ولا ينافي هذا ما ذَكر الله في قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) المؤمنون/ 15 ، 16؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها – كإخراج عيسى الموتى من قبورهم – تعتبر أمرًا عارضًا، يُؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى، أما البعث العام: فإنه لا يكون إلا يوم القيامة، ولهذا نقول في شبهة الذين أنكروا البعث من المشركين، ويقولون: ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) الأنبياء/ 38، ويقولون: ( فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) الدخان/ 36، نقول: إن هؤلاء مموِّهون، فالرسل لم تقل لهم: إنكم تبعثون الآن، بل يوم القيامة، ولينتظروا، فسيكون هذا بلا ريب. انتهى.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة