هل يلزم الموصى إليه أن يغسل ويصلي الموصي؟ ومسائل في العزاء

السؤال

إذا أوصت المتوفاة بأن يغسلها بناتها، فهل عليهن أن ينفذن الوصية، مع العلم أنهن لا يأمنَّ أنفسهن، ويخفن أن يرتكبن معصية، كأن يدفعهن الحزن والجزع لارتكاب ما يغضب الله تعالى، كاللطم على الخدود، فهنّ يطلبن من الله تعالى الثبات، ويرغبن بالبعد عن مواطن الفتن، فهل يجوز لهن عدم تنفيذ الوصية؟ وهل يجب عليهن الذهاب مع المتوفاة كأن تكون أمًّا، أو أختًا، هل يجب عليهن مرافقة المتوفاة إلى مكان غسل الموتى؟ وهل يأثمن في حال عدم مرافقتها؟ نحن نعلم بأن مجالس العزاء من البدع، ولكن إذا كان هناك من الأهل من يجلس للعزاء في حالة وفاة قريب له، فهل في ذهابنا لتقديم العزاء في هذه المجالس ارتكاب لمعصية؟

الجواب

الحمد لله

  1. إذا كان الميت قد أوصى لشخص معين بأن يغسله: فهو أولى الناس بتغسيله إذا نازعه أحد، وربما كان ذلك لسبب، كأن يكون هذا الوصي أمينًا يستر ما يراه من سوء، أو أن يكون عالمًا بأحكام الغسل، أو غير ذلك، وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه زوجته أسماء بنت عميس بغسله بعد موته، وأوصت فاطمة زوجها عليًّا بغسلها، وأوصى أنس بن مالك تلميذَه التابعي الجليل محمد بن سيرين بالأمر نفسه، وقد نفَّذ الأوصياء جميعًا ما أوصوا به، وهم مقدمون على أقرب الناس من الميت.

* قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

قوله: ” وأوْلى الناس بغسله: وصيُّه “، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت، قلنا: أولى الناس بغسله: وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.

واستفدنا من قول المؤلف: ” وصيه ” أنه يجوز للميت أن يوصي ألاَّ يغسله إلا فلان، والميت قد يوصي بذلك لسبب، مثل: أن يكون هذا الوصيُّ تقيًّا يستر ما يراه من مكروه، أو أن يكون عالِمًا بأحكام الغسل، أو أن يكون رفيقًا؛ لأن بعض الذين يغسلون الأموات يعاملونهم بشدة عند نزع ثيابهم، وكأنما يسلخون جلد شاة مذبوحة – نسأل الله العافية -، فيوصي لشخص معين، فإذا كان الميت قد أوصى لشخص معين بأن يغسله: فهو أولى الناس بتغسيله.

والدليل على استفادة أولوية التغسيل بالوصية: ” أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته “، ” وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين “.

” الشرح الممتع على زاد المستقنع ” ( 5 / 265 ، 266 ).

وهل تنفيذ الوصية في مثل هذه الأحوال واجب شرعي على الموصى إليه؟ الظاهر: عدم وجوب ذلك؛ فلا واجب شرعي إلا ما جاء من الشرع، ولو كان ذلك واجبا شرعيًّا لوقع كثيرون في حرج، وخاصة أهل العلم والفضل، فكل المحبين لهم يودون لو غسلهم أولئك العلماء والفضلاء، وصلوا عليهم، وهذا يوقعهم في حرج بلا ريب، ولذا لم يكن واجبًا تنفيذ مثل هذه الوصايا.

ومما يستدل به على وجوب تنفيذ الوصية: قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة/ 240.

* قال الشيخ العثيمين – رحمه الله – في فوائد هذه الآية -:

ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت: أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى: ( فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ )؛ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.

ويتفرع عليه: لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده: لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول: فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.

وكذلك يؤخذ منه قياسًا: كل مَن أوصى شخصًا بأمر يتعلق بالشخص الموصى له: فإن الحق له في تنفيذ الوصية، وعدم تنفيذها.

” تفسير سورة البقرة ” ( 3 / 187 ، 188 ).

وأما الواجب تنفيذه مما أوصى به الميت قبل موته: فهو فيما يتعلق بماله الذي كان يملكه، وحتى هذا فإنه مرتبط بالشرع، فلا يحل له أن يوصي بأكثر من الثلث، ولا يوصي لوارث.

  1. شرط تولي الموصى إليه غسل المتوفَّى: أن يكون صالحًا لذلك، قادرًا عليه، وإلا لم يشرع له القيام بذلك، وعندها يتولى تغسيل المتوفى: الأقرب فالأقرب، ممن يُحسن تغسيل الأموات.

* قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -:

وهذا الترتيب في الأولوية: إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل، وطالبوا به, وإلا فإنه يقدَّم العالم بأحكام التغسيل على مَن لا علم له.

والمرأة تغسلها النساء, والأولى بتغسيل المرأة الميتة: وصيتها, فإن كانت أوصت أن تغسلها امرأة معينة: قُدِّمت على غيرها، إذا كان فيها صلاحية لذلك, ثم بعدها تتولى تغسيلها القربى، فالقربى من نسائها.

” الملخص الفقهي ” ( 1 / 300 ).

وعليه: فالأولى لبنات الأم الميتة أن يقمن بتغسيلها، بشرط أن يكنَّ على علم بطريقة التغسيل الشرعي، وبشرط أهم: وهو عدم وقوعهن في إثم النياحة، وشق الثياب، وغيرها مما نهيت عنه.

  1. فالوصية بفعل المعاصي: لا تصح، ويأثم من يوصي بذلك، وأما الوصية بمباح يُحتمل أن يقع صاحبه فيه بمعصية: فلا يأثم من أوصى بذلك إن غلب على ظنه عدم وقوع معصية، ويأثم من نفذها إن علم من نفسه، أو غلب على ظنه وقوعه في الإثم.

فوصية الأم بناتِها بأن يغسلنها: ليس عليها فيها حرج من حيث الأصل؛ بل هنّ أولى من يقوم بذلك من النساء، لكن إذا خشيت البنات من ارتكاب الإثم باللطم، وشق الثياب، والنياحة: فلا جناح عليهن من عدم تنفيذ وصية والدتهن بغسلها، بل هو المتعين عليهن فعله بلا شك، وليلتمسن لها امرأة أمينة، تقية، تقوم بغسلها.

  1. ولا يلزمهن اتباع المغسّلة إلى موضع الغسل، إلا إذا احتاجت إلى من يساعدها، وهن قادرات على ذلك، من غير أن يقعن في الإثم.
  2. يشرع تقديم التعزية لأهل الميت، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عزَّى أهل جعفر بن أبي طالب لما استشهد في مؤتة، وسيأتي ذِكر ذلك عن عائشة رضي الله عنها.
  3. وتكون التعزية بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ لله مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إلى أَجَل مُسَمَّى، فَلْتَصْبرْ وَلْتَحْتَسب ) رواه البخاري ( 1284 ) ومسلم (923)، أو قول ” عَظَّم الله أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ “، أو أي كلمات طيبة تعين على الصبر، وتذكّر بالرضا بقدر الله؛ لأن المقصود من التعزية: تسلية أهل المصيبة في مصيبتهم، ومواساتهم، وجبرهم.
  4. وليس للتعزية مكان معين يخصص لها، فإن تيسر لأهل الميت إقامته خارج البيت: كان أولى، كما يفعله كثيرون في فعله في مكان التقاء العشيرة – مضافة، أو ديوانية – أو يقام عند جار، والمهم في ذلك أمران:

أ. الابتعاد قدر المستطاع عن بيت أهل المصيبة؛ حتى  لا يزاد عليهم حمل استقبال الناس فوق مصيبتهم.

ب. أن يُتجنب الإسراف والتبذير، كأن تستأجر صالة بمبالغ باهظة، أو تُنصب خيم، أو تُعلّق إضاءات، أو تُقدّم ضيافات، وكأنها اجتماع أفراح!.

  1. يجوز الذهاب لتعزية أهل الميت، ومجالستهم بقصد التخفيف عنهم، وخاصة النساء، فهنَّ أحوج من الرجال للتعزية، والتذكير بالله تعالى، وبوجوب التسليم بقضائه، وقدَره؛ لما يكثر منهن النياحة، وشق الثياب، ورفع الصوت، عند تلك المصائب، وهو ما كانت تفعله النساء الصحابيات، بل كانت الفقيهة عائشة رضي الله عنها تصنع لأهل الميت طعامًا يخفف عنهن الحزن، فتجمع بين الأمور المعنوية، والحسية، في سبيل تخفيف المصاب عليهن.

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتْ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ).

رواه البخاري ( 5101 ) ومسلم ( 2216 ).

وقول عائشة في الحديث ” أنها كانت إذا مات الميت “: يدل على أنها كانت عادة عندهم، وأن ذلك كان يتكرر منها.

– وقولها ” ثم تفرقن ” يدل على أنهنَّ كنَّ مجتمعات.

– وقولها ” ثم تفرَّقن إلا أهلها ” يدل على أن غيرهنَّ كان معهنَّ، ثم انصرفن.

– ولمعرفة ” التلبينة ” وفوائدها، وطريقة صنعها: فلينظر في أجوبتنا الأخرى.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة