يطلب ترك الاستقامة بحجة النقص والتقصير من بعض المحسوبين على الالتزام!

السؤال

بادئ ذي بدئ أشكر لكم جهدكم المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل ما تقدمونه في موازين حسناتكم يوم القيامة.

ثمة شبهة من تلبيس إبليس على بعض الناس، وهي أنهم يرددون مقولة: ” إما أن تأخذ الدين بأكمله، أو تتركه، ولا تتزين به ” !، والسبب في ذلك: مخالطتهم، ومعرفتهم لأشخاص حولهم سَمْتهم الالتزام بأحكام الشرع، وواجباته، لكن لديهم تقصير، ومخالفة، ونقص في أمور أخرى! فهلًا حررتم لنا جوابًا شافيًا في رد هذه الشبهة، ودحض هذه الحجة؛ لأنها منتشرة، وأثرها خطير، وهي من تلبيس إبليس!.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

جزاك الله خيرًا، وبارك فيك – أخي السائل -، وجعلنا وإياك مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

لا شك أن هذه القضية تجول في خاطر كثيرٍ من الناس, ولعل كثيرًا منهم يرغب عن طريق الاستقامة، أو يتأخر التحاقه بالطريق لهذه الشبهة التي ذكرها السائل، والذي نشكره على اهتمامه بالبحث عن توضيح لهذه المسألة؛ وهذا يدل عن حس إسلامي لدى السائل وغيرة صادقة، إن شاء الله.

ثانيًا:

إن الصراع بين الخير والشر مستمر منذ خلق الله آدم, فقد استكبر إبليس بعده عن الانقياد لأمر الله، وهو في هذا الصراع لا يزال يلقي الشبهة تلو الأخرى ليصد الناس عن طريق الاستقامة، قال تعالى مخبرًا عن حال الشيطان وقوله: ( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف/ 17.

ثالثًا:

وعدم الكمال من طبيعة البشر؛ ومهما بلغ الإنسان كمالًا في العلم، والتقوى، والإيمان: فوقوع الذنب منه، والمعصية، والتقصير: غير مستبعد, ولذلك لما ذكر الله ما أعده للمتقين بيَّن شيئًا من صفاتهم، ومنها: المسارعة إلى التوبة، والاستغفار، وهذا دليل أن التقي لا بد أن تقع منه الهفوة، والزلة، أو يقع منه التقصير.

قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) آل عمران/ 133 – 135.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ).

رواه مسلم ( 2749 ).

رابعًا:

هذا، وإن طريق الاستقامة طريق شاق، ويحتاج إلى مجاهدة، وصبر؛ فالإنسان في هذا الطريق يصارع هوى النفس، والشيطان، والشهوات، والشبهات، ويبقى بين صدٍّ وردٍّ، وقُرب وبُعد، ولكن بالصبر، والعلم، والجهاد، يبلغ غايته، كما قال تعالى: ( والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنَا ) العنكبوت/ 69.

عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ، فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ، فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ).

رواه النسائي ( 3134 ) وصححه الألباني في ” صحيح النسائي “.

خامسًا:

وإذا كانت تلك هي حال المسلم مع الشيطان في صراعه معه، وإذا عُلم أن المسلم لن تخلو حياته من زلة، أو تقصير: تبين بطلان ذلك القول الجريء في أنه إما أن يستقيم المسلم على أمر الله بالكلية، أو يدع الاستقامة بالكلية! وفيه من الافتراء على الشرع ما يستوجب الإثم على قائله، وعلى من تفوه به التوبة، والاستغفار، والندم عليه؛ لأن صاحب القول ذاك يدعو للفجور، وارتكاب المحرمات؛ لأنه لن يكون في استطاعة أحد أن يستقيم على أمر الله تعالى بكليته، فصار المطلوب – على حسب ذلك القائل – أن يترك الاستقامة المستطاعة ليفعل كل محرَّم نهى الله عنه، ويترك كل واجب يستطيع المسلم فعله! وهذا بلا شك زندقة ظاهرة، ودعوة للفجور، وقطع لكل فضيلة.

سادسًا:

نعم، يُطلب من المسلم أن يدخل في الإسلام كافة، وينهى عن ارتكاب ما نهى الله عنه، لكن ماذا طلب الله ممن خالف ذلك؟! طلب منهم التوبة، والاستغفار، فعل الأوامر، وعدم الاستمرار في تركها، وترك النواهي، وعدم الاستمرار في فعلها، والآيات في ذلك أشهر من أن تُذكر، وقد سبق ذِكر واحدة منها.

ومن طلب من فاعل المعصية الواحدة أن يزيد عليها بفعل كل معصية، وأن يترك كل واجب أوجبه الله عليه: فهو فاعل لما يضاد أمر الله تعالى، وهو غير داخل في سلك المؤمنين؛ لأن من صفات المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومثل هذا آمر بالمنكر، ناهٍ عن المعروف!.

سابعًا:

وإن ما يقع فيه بعض أهل الاستقامة من مخالفة الشرع، في فعل محرَّم، أو ترك واجب: لا يجعل غيره يحذو حذوه، بل يجعله يعتبر به لئلا يقع منه مثل فعله، ويجعله يحمد ربه على العافية في دينه أن سلَّمه ربه تعالى من الفتنة، وليس ينبغي أن يدعوه ذلك إلى اليأس، وترك الاستقامة على أمر الله؛ فإنه إن فعل ذلك صار أشدَّ إثمًا، وأكثر بُعدًا عن الله تعالى، وصار ما أنكره على غيره من الوقوع في المعصية لا شيء بالنسبة لما وقع هو فيه.

والإنسان رهين عمله، كما قال تعالى: ( كلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) المدثر/ 38، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُها) رواه مسلم ( 223 ).

والقدوة والأسوة للمسلمين ليس هو فلان، أو فلان، إنما هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يكون للمسلم أسوة حسنة، يقتدي بفعله، ويهتدي بهديه، ولا يغتر المسلم بما يكون عليه حال غيره من الصلاح فقد يُختم له بسوء، كما لا يتسرع بالحكم على صاحب المعاصي بالهلاك، فقد يُختم له بخير، وإنما الأعمال بالخواتيم.

* قال أنس – رضي الله عنه -: 

لا تعجبوا لعمل رجلٍ حتى تعلموا بما يختم له به؛ فقد يعمل الرجل برهة من دهره، أو زمانًا من عمره عملًا سيئًا، لو مات عليه: مات على شر، فيتحول إلى عمل صالح فيُختم له به, وقد يعمل العبد برهة من دهره، أو زمانًا من عمره عملًا صالحًا، لو مات عليه: مات على خير، فيتحول إلى عملٍ سيءٍ فيختم له به.

رواه أحمد في ” مسنده ” ( 3 / 223 )، وصححه محققوه.

وعلى الإنسان في سيره إلى الله أن يحاول أن يبلغ الغاية، والكمال، وأن يجاهد نفسه في سبيل تحقيق ذلك، وأن يجعل الغاية مرضاة الله، وليغض نظره عن أفعال الناس، وأعمالهم، إلا أن يستفيد فيعتبر، أو يتعظ، إن فعل غيرُه معصية، أو يستفيد بالحث على أن يفعل كفعله إن رآه على طاعة، وخير، وكل امرئ بما كسب مجزي، ومرتهن.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة