مسألة تسلسل الحوادث والقدم النوعي وقدم العالم – الشيخ عبد الباسط الغريب

مسألة تسلسل الحوادث والقدم النوعي وقدم العالم

أولا : قال سعيد فودة  في كاشفه (89) : وقد يفهم من كلمات لابن تيمية في بعض ا لمواضع أن كل ما هو موجود الآن  ؛ فإنه مخلوق في شيء قبله  , وهذا الشيء مخلوق ومنه كل شيء .

 وهذا القول قريب من قول الفلاسفة بقدم مادة العالم وحدوث صورتها , والقول بقدم العالم بالنوع هو عين القول بقدم نوع المفاعيل والآثار لا يوجد فرق بينهما  , وكل منهما بينه ابن تيمية على كون الله تعالى خالقاً منذ الأزل ,  ومعنى كونه خالقاً عنده لا يحتمل إلا أنه لم يزل يوجد مخلوق , وقبله مخلوق وهكذا لا إلى بداية ؛ فهو مبني على قدم نوع صفات الله تعالى , وسنتحدث عن هذه المسألة في فصل خاص ,  ومبني أيضاً على القول بأن الله تحل فيه الحوادث المتعاقبة منذ الأزل إلى الأبد ؛  فإذن هذه الأصول هي أساسية عند ابن تيمية , وهو يقول بها جميعاً ليتم له إثبات ما يريد إثباته  – كذا قال –

وللجواب عليه أقول مستعينا بالله :

أولا : هذه مسألة من المسائل التي أكثر المخالفون لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من التكلم فيه بسببها وتم خلط مسألتين فيها إحادها حق والأخرى باطلة وإنما يؤتى الرجل كما قال بعض السلف من سوء فهمه أو سوء قصده أو كليهما ؛ كما فعل هذا المعترض.

ولتوضيح هذه المسألة نقول :

  • عقيدة أهل السنة المتفق عليها بين أهل السنة أن الله هو الأول الذي ليس قبله شئ وهو الآخر الذي ليس بعده شئ , وعندما قرر أهل السنة ذلك قرروا أن هذه الأولية لله تعالى هي بأسمائه وصفاته وأفعاله ؛ إذ لا يتصور الله سبحانه مجردا عن أسمائه وصفاته وأفعاله كما ذهب إلى ذلك الفلاسفة ومن تبعهم من أهل الكلام .
  • ولتوضيح ذلك نقول : لما يقول أهل السنة عن الله ؛ الأول الذي ليس قبله شئ ؛ يعنون :أي بصفاته وأفعاله .

فهو مثلا : أولا بصفة الخلق والرزق والكلام والإحياء والإماتة وهكذا .. فلا يتصور الله بدون صقاته .

  • من أدلة أهل السنة والجماعة على إثبات أزلية الأفعال ودوام الفاعلية لله سبحانه وتعالى أن الله متصف بالحياة ؛ والحياة من لوازمها الفعل ؛ فكل حي فعال كما ذكر أهل السنة والجماعة , وقد استدل أهل السنة بهذا الدليل أن كل حي فعال ؛ وأن من لوازم الحياة الفعل .

قال الإمام البخاري : «وَلَقَدْ بَيَّنَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ لَيْسَ بِخَلْقٍ، وَأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ حَيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ مَيِّتٌ .

خلق أفعال العباد (85)

وقال الإمام الدارمي : لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ التَّحَرُّكَ.

كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ.

نقض الدارمي (1|215).

  • وهنا برزت نقطة الخلاف بين أهل السنة والأشاعرة فالأشاعرة فرقوا بين الصفات الذاتية والفعلية فقالوا في الصفات الفعلية أن الله اتصف بها بعد أن لم يكن متصفا بها !

     فقد عنون الجويني في كتابه الشامل  عنوانا(305) :فصل القديم غير خالق في أزله بالخالقية . انتهى وهو بذلك يقرر مذهب الأشاعرة

  •  والسبب في ذلك أي أنهم قالوا أن الله  اتصف بصفات الأفعال كالخلق والكلام والرزق بعد أن لم يكن متصفا بها؛  فرارا وهروبا من القول بحوادث لا أول لها , فقالوا لو كان الله متصفا منذ الأزل بصفة الخلق لزم وجود مخلوقات منذ الأزل ولو اتصف بصفة الرزق لزم وجود مرزقات منذ الأزل وهكذا بقية الصفات وهو المعبر عنها بحوادث لا أول لها .
  • ح‌-  وهنا قامت عليهم الشناعات بسبب هذه المسألة فاتصاف الله بصفاته بعد أن لم يكن متصفا بها يلزم أنها كانت في حقه سبحانه ممتنعة ثم صارت ممكنة , وهذا التحول من الامتناع إلى الجواز يلزمه سبب لذلك سيما الأوقات في حقه متساوية وترجيح هذا الوقت على هذا الوقت يحتاج إلى مرجح كما هي المسألة المعروفة في علم الكلام .

قال شيخ الإسلام : وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم ؛ يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع ، وقال لهم الناس : هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع ؛ وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة ، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه ، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح .

درء التعارض (4|153)

  •  وهنا نقطة الخلاف الثانية وهي ما دام أن الله متصف بصفاته منذ الأزل مثل الخلق والرزق والكلام , هل يلزم وجود أثر هذه الصفات ؟ يعني صفة الخلق أثرها المخلوق وصفة الرزق أثرها المرزوق وهكذا يعني هل يلزم وجود مخلوقات منذ الأزل ووجود مرزوقات منذ الأزل , وهنا قرر أهل السنة وقالوا : بالجواز . وأضع تحت هذه الكلمة خط لما سيأتي بيانه .
  • وبهذا التقديم تتوضح مسألتان :
  • القدم النوعي أو التسلسل في الأفعال وهو المعبر عنه عند أهل السنة بدوام فاعلية الله , وأن الله بأفعاله وصفاته الأول الذي ليس قبله شئ .
  • 2-   حوادث لا أول لها وهو المعبر عنها في علم الكلام التسلسل في الآثار أو التسلسل في المفاعيل أو المفعولات والتي هي أثر صفات الله ؛ فالمخلوق أثر الخلق والمرزوق أثر الرزق وهكذا .

ثانيا : نأتي لتوضيح مسألة قدم العالم والتي شغب عليها المعترض وحاول إلصاقها بشيخ الإسلام ابن تيمية بإلزاماته الباطلة ؛ فأقول مستعينا بالله :

  1. كان الناس  في مسألة خلق العالم  قبل ابن سينا على قسمين :
  2. : الذين يقولون بقدم العالم  , وأنه لاخالق لهذا الكون , وهم الدهريون والمشركون , واشتهر هذا الكلام عن فلاسفة اليونان الذين قالوا بنظرية العقول وأن كل عقل انبثق عن الآخر  والعقول هي الكواكب , وأن هذا الكون أوجد نفسه بنفسه وهو قديم لا أول له , وهو المعبر عنه بعلم الكلام بالتسلسل في المؤثرين أو العلل كأنهم تصوروا أن كل علة ينبثق عنها علة , يعني كل إله ينبثق عنه إله .

وكل كوكب انبثق عنه كوكب والكواكب هي الآلة في نظرهم وهذا كما هو بين لم يذهب إليه أحد من أهل الإسلام إلا من ينكر الرب سبحانه وتعالى !؟ وهذا كلام نضع  تحته خط

  •  : الذين يقولون بإثبات الخالق , وأن هذا الكون مخلوق لله .

وهذا واضح بين وهم أهل الأديان  .

أقول : كان هذا المعروف في هذه المسألة ؛  فأحدث ابن سينا وقوم من متأخري الفلاسفة  قولاً ثالثاً  , وحاول أن يجمعوا بين القولين ؛ قول أهل الإسلام وقول ملاحدة اليونان فقالوا :إن العالم   موجب بالذات أي لازم لذات الله لا ينفك عنه , وقالوا عن أولية الله هي أولية رتبة ومنزلة ليست أولية حقيقية , فقالوا هذا الكون ملازم لذات الله لا ينفك عنه واصطلحوا على تسميته موجب بالذات أو معلول بالذات  وقالوا يجب أن يكون هناك مخلوقات ملازمة لذات الله منذ الأزل لا تنفك عنه ولا يتقدم عليها في الحقيقة إلا بالرتبة والمنزلة . وأضع كلمة يجب خط .

  •  فصار بعد ذلك القول بقدم العالم يتضمن قولين :
  • قدم الله  وهو قول ملاحدة اليونان الذين قالوا بقدم العالم وأنه لا أول له وأنه لم ينبثق عن إله .
  • 2-   والثاني قول ابن سينا أن هذا الكون منبثق عن الآله ولكنه موجب بالذات لا ينفك عن الله ولا يتقدم الرب عنه إلا بالرتبة والمنزلة ولا أولية لله سبحانه حقيقية عليه.!

وهنا مكمن المسألة وسرها والخلط فيها والتلبيس والتدليس كما حاول هذا المعترض أن يوهم أن شيخ الإسلام يقول بهذا القول .

  •  وهنا نقطة الخلاف  فمسألة حوادث لا أول لها تختلف عن مسألة قدم العالم التي قال بها ابن سينا من وجهين :
  • 1-   أن من قال بحوادث لا أول لها قال بالجواز ولم يقل بالوجوب وأن هذا تابع لمشيئته واختياره يفعل ما يشاء كما قال تعالى : فعال لما يريد , ولم يقل بوجوب حوادث لا أول لها .
  • أن  أولية الله هي أولية حقيقية وليست بالرتبة أو المنزلة كما ذهب إليه ابن سينا وهذا قرره شيخ الإسلام في عشرات المواضع .

قال رحمه الله  : وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة ؛ فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل ,  وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم ؛  فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته ,  وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده …

فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل  , وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان  , وما لم يشأ لم يكن فهو حق  ؛ فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة .

منهاج السنة النبوية ” (1|166)

ثالثا : على إثر ذلك قسم أهل السنة التسلسل إلى ثلاثة أقسام :

  • التسلسل الممتنع .

    قال ابن أبي العز رحمه الله : وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن  ؛ فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية .

 “شرح الطحاوية”( 130)

وهو يسمى أيضا التسلسل في العلل كما قدمنا وهو قول ملاحدة اليونان الذين ظنوا أن هذا الكون انبثق عن الكواكب والكواكب هي الآله القديمة التي لا أول لها .

  • التسلسل الواجب : ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد , وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له , وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل ,  وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه ؛  فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء , ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ,  وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته  ؛ فإن كل حي فعال ,  والفرق بين الحي والميت الفعل  .

ولهذا قال غير واحد من السلف :  الحي الفعال .

 وقال عثمان بن سعيد :  كل حي فعال ,  ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله من الكلام والإرادة والفعل .

  “شرح الطحاوية “(130)

وهو المسمى بقدم النوعي للصفات أو التسلسل في الأفعال

فالأشاعرة – كما قدمنا –  ينكرون  أن الله يتكلم بقدرته ومشيئته ,  ويمتنع عندهم أنه كان قادرا على الخلق حتى خلق وعلى الإحياء حتى أحيا  ؛ فكان معطلاً لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء  بل هو وحده موجود بلا كلام ولا فعل يفعله ثم أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته.

وقال ابن أبي العز :والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن ؛ أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل؛  فليس في الشرع , ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه .

  “شرح الطحاوية ” (131)

ولذلك قرر الإمام الطحاوي في عقيدته الرد على أولئك الجهمية وأضرابهم

بقوله  :” ليس بعد الخلق استفاد اسم الخالق , ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب , ومعنى الخالق ولا مخلوق ,  وكما أنه محي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل أحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.

  •  :  التسلسل الممكن:   وهو التسلسل في مفعولاته وآثار صفاته  من هذا الطرف كما تتسلسل في طرف الأبد ؛  فإذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً  , وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له – أي يمكن أن يخلق وأن لا يخلق أن يتكلم ,  وأن لا يتكلم سبحانه فهو يفعل ما يشاء –  وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ,  ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له ؛ فلكل مخلوق أول  , والخالق سبحانه لا أول له ؛ فهو وحده الخالق  , وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن .                                                                               “شرح الطحاوية” ( 130) بتصرف يسير .

وهذا التسلسل الممكن هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو واضح بين , و فرق بين هذا القول , وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وبحوادث لا أول لها موجبة بالذات _ أي ملازمة لذات الله لا تنفك عنه- .

 ولذلك قال ابن أبي العز رحمه الله :

”  ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال ,  ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء ؛ فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء  ؛ فالرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا شاء قال تعالى :{ قال كذلك الله يفعل ما يشاء} وقال تعالى {ولكن الله يفعل ما يريد} وقال تعالى {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} وقال تعالى : {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } وقال تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قيل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}.

” شرح الطحاوية” (129)

رابعا : قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيرا في  كتبه ورسائله أن الله كان ولم يكن شيء قبله  , ولم يكن شيء معه سبحانه وتعالى ,  وأن هذا العالم حادث وكائن من العدم ,  وأن الله خلقه بعد أن كان معدوماً ,  ورد على الفلاسفة الذين جعلوا هذا العالم لازماً لذات الله أزلاً.

قال شيخ الإسلام رحمه الله ” والمقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ….

“الصفدية “(2/138)

وقال شيخ الإمام ابن تيمية  : .. وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم ,  ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن  ؛ فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل .

 فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا بوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية ؛ فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث , وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل ؛  فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له .

 وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل إن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث  أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث ؛  فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية  , وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة القديمة , و إثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها .

وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضاً باطل والملزوم قدم شيء من العالم  ؛ فإذا كان الملزوم باطلا  ؛ فنقيضه حق  , وأنه ليس من العالم شيء قديم  .

“الصفدية” (1/22)

وقال رحمه الله:  ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أن لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلي محدث للحوادث ؛  فإذا كان هذا معلوما بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية ,  وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا دل على فسادهما جملة وتفصيلا .

                                         مجموع الفتاوى (16/444)

وهذه النصوص تكفي المنصف لمن تدبرها وتأملها .

خامسا : القول بحوادث لا أول لها لا إشكال فيه بل هو مقتضى كمال الله تبارك وتعالى وكمال مشيئته واختياره , وهذا باعتراف كبار العلماء والمحققين وعلى رأسهم؛ أئمة أشعرية .

قال الشنقيطي رحمه الله  في كتابه رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (51)

: أما بالنظر إلى وجود حوادث لا أول لها يايجاد الله، فذلك لا محال فيه ولا يلزمه محذور لأنها موجودة بقدرة وإرادة من لا أول له جل وعلا. انتهى .

وتأمل قوله :بإيجاد الله لها لأنها تستند هذه الآثار إلى صفاته التي لا تنفك عنه .

وقال الأسنوي في شرح منهاج الوصول (2/103) : وأجاب في التحصيل – للأرموي – بجوابين وذكر الأول ثم قال : الثاني أن المحال من التسلسل إنما هو التسلل في المؤثرات والعلل وأما التسلسل في الآثار فلا نسلم أنه ممتنع …

قال الأصفهاني في شرح المحصول : وفيه نظر لأنه يلزم تجويز حوادث لا أول لها وهو باطل على رأينا .

قال  العلامة ىمحمد بخيت المطيعي بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في سلم الوصول لشرح نهاية السول (2/103)  معلقا على ذلك :

قال الأسنوى ” :الثاني أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعلل وأما التسلسل في الآثار فلا نسلم إلى آخره ” كلام جيد وأما قول الاصفهاني وفيه نظر لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها وهو باطل على رأينا ,  فنقول:  لا يلزم كونه باطلاً على رأيه أنه باطل في الواقع ونفس الأمر فإنه لغاية الآن لم يقم دليل على امتناع التسلسل في الآثار الموجودة في الخارج وان اشتهر أن التسلسل فيها محال ولزوم حوادث لا أول لها لا يضر العقيدة إلا إذا قلنا لا أول لها بمعنى لا أول لوجودها وهذا مما لم يقل به أحد بل الكل متفق على ان ما سوى الله تعالى مما كان أو يكون حادث أي موجود بعد العدم .

وكذلك أثير الدين الأبهري – من كبار الأشاعرة – في كتابه تحرير الدلائل في تقرير المسائل قائل بها كما نقل عنه شيخ الإسلام في درء التعارض(6/185) .

انظر دفع الشبه الغوية (38)

فتأمل : الأرموي يجوز والشيخ محمد المطيعي شيخ الأزهر في زمانه ينصر قوله والأبهري قائل به .

والدواني كذلك قوى القول بترجيح حوادث لا أول لها , ورجحه محمد عبده كذلك في حاشيته عليه .

انظر دفع الشبه الغوية (41-42)

وقال الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله في شرحه للنونية لابن القيم  :

انقسم الناس في تسلسل الحوادث والآثار إلى ثلاث طوائف :

فأهل السنة والجماعة ذهبوا إلى إمكانه في جانب الماضي والمستقبل بلا فارق .

وذهب الجهم وأبو الهذيل إلى القول بامتناعه في جانب الماضي والمستقبل جميعاً.

وذهب الأشاعرة إلى التفريق بين الماضي والمستقبل فذهبوا إلى جوازه في جانب المستقبل وبامتناعه في جانب الأزل وكانت شبهتهم في ذلك أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع أجزائه .

والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم ، والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان لهذا منعوا دوام الفعل في الماضي لما يلزمه من قدم المفعول ، وأما دوام الفعل في المستقبل وتسلسه إلى غير نهاية ، فهذا لا محذور فيه ولا يقتضي الدليل إنكاره ، فالعقل يجيز أن يكون بعد كل حادث حادث دون انقطاع في جانب الأبد .انتهى

سادسا : قرر الإمام الرازي -وهو إمام من أئمة الأشاعرة- أن أكثر طوائف المسلمين يقولون بقيام الأفعال الاختيارية بالله , وإن كانوا ينكرونه باللسان.

قال شيخ الإسلام:  فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية كـ الأربعين ونهاية العقول وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها، كما تقدم تقريره، واعتراض إخوانه عليه، فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة، ويقرر وجوب دوام الفاعلية، وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب، وامتناع حدوثها في غير زمان، ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب، كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره .

درء التعارض (8/273)

قال الرازي : في المباحث المشرقية: :  : اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته , وإذا كان كذلك، وجب أن تدوم أفعاله بدوامه .

المباحث المشرقية (2/515)

وقال أيضا: أما وقوع التغير في الإضافات فلا خلاص منه .

الأربعين في أصول الدين (118-119)

سابعا : هل يلزم من ذلك التكفير ؟

قال محمد عبدة في حاشيته على الدواني : واعلم أني وإن كنت برهنت على حدوث العالم، وحقّقت الحق فيه، على حسب ما أدّى إليه فكري ووقفني عليه نظري، فلا أقول بأن القائلين بالقدم قد كفروا بمذهبهم هذا، أو أنكروا به ضرورياً من الدين القويم. وإنما أقول أنهم قد أخطأوا في نظرهم، ولم يسددوا مقدمات أفكارهم. ومن المعلوم أن من سلك طريق الاجتهاد، ولم يعول على التقليد في الاعتقاد، ولم تجب عصمته، فهو معرض للخطأ، ولكن خطؤه عند الله، واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره، أن يصل إلى الحق، ويدرك مستقر اليقين. وكل من اعتقد بالألوهية التامة ونزه الحق عن جميع النقائص واعتقد بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء مع علمه بأنه قد نقل فهو مؤمن ناج عدل رضي عند الله تعالى ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعلى المرء أن يسعى إلى الخير جهده فإياك أن تنهج نهج التعصب فتهلك . انتهى

فكيف إذا كان هو القول الحق والذي تدل عليه الأدلة النقلية والعقلية , والحمد لله أولا وآخرا .

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
10,000المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة