حكم إبقاء العضو المريض بحجة عدم التشويه ولو أدى إبقاؤه للموت

السؤال

قرأت إجابتكم المتعلقة بالأدوية الطبية والتي قد تؤدي إلى الوفاة، لكن سؤالي مختلف بعض الشيء، فهناك بعض الناس هنا في الولايات المتحدة – وهم كثر – يصابون بأمراض خبيثة – والعياذ بالله – ولا طريقة لعلاجهم إلا باستئصال أو بتر عضو من أعضائهم، وما لم يفعل ذلك فإن الموت هو النتيجة الحتمية، فبعض هؤلاء المرضى يرفض الخضوع لعملية الاستئصال أو البتر ويفضل الموت؛ لأنه يرى أن الموت أفضل من العيش مشوَّهًا مقعدًا، فهل يُعتبر هذا انتحارًا؟ وما حكم هؤلاء الأشخاص؟.

الجواب

الحمد لله

أولًا:

اختلف العلماء في حكم التداوي، فبعض العلماء يوجبه – وهم الظاهرية – وبعضهم يجعله مستحبًّا – وهم الشافعية ونقل النووي أنه مذهب جمهور السلف -، وفريق ثالث يراه مباحًا – الحنفية والمالكية – وذهبت طائفة إلى أن تركه أفضل – وهم الحنابلة -؟

والصواب: أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ولعلّ الأصل هو القول باستحبابه.

ثانيًا:

وليُعلم أن الخلاف السابق بين العلماء في حكم التداوي إنما هو باعتبار عدم القطع بأن ذاك الدواء يُشفى به ذلك المرض، وإنما الشفاء به من باب المظنونات.

وأما مع القطع بأن ترك التداوي يؤدي إلى تلف عضو صاحبه أو إلى الموت: فالأظهر أن التداوي يكون حينئذٍ واجبًا، وتركه حتى يؤدي بصاحبه إلى الوفاة يكون انتحارًا -ويسمى ” الانتحار بطريق السلب ” ومثله الامتناع عن الطعام أو الشراب المحرَّميْن أصلا حال الضرورة – أو له حكم الانتحار، وقد مثَّل الفقهاء لذلك بأمر شبيه لما جاء في السؤال، وهو وجود عضو متآكل في البدن يسري في البدن لو تركه من غير قطع حتى يموت بسببه، ومثلوا – أيضًا – بوجود جرح نازف في عضو لو تركه صاحبه فإنه يموت بسببه؛ لأن قطع النزف هنا يقيني في وقف سبب الموت، وترك البدن بغير دم سبب يقيني للوفاة، فيتعيَّن على صاحب الجرح ربط جرحه أو حسم الدم بوضع العضو في زيت يغلي أو بكيه بنار حتى تسد أفواه العروق.

* قال ابن هبيرة – رحمه الله -:

لو ترك تاركٌ جرحَه يسيل دمه فلم يعصبه حتى سال منه الدم فمات: كان عاصيًا لله تعالى قاتلاً لنفسه. انظر ” الآداب الشرعية ” لابن مفلح الحنبلي ( 2 / 349 ).

وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 34 / 53 ):

للحر البالغ العاقل قطع سِلْعة – أي: ورم ونحوه – من جسده لا خطر في قطعها، ولا في تركها؛ لأن له غرضا في إزالة الشيْن، فإن كان في قطعها خطر على نفسه بقول طبيبين أو طبيب ثقة ولا خطر في تركها، أو زاد خطر القطع : فلا يجوز له قطعها؛ لأن ذلك يؤدي إلى هلاك نفسه، والله يقول ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُم إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة/ 195، وإن قال الأطباء : إن لم يقطع حصل أمر يفضي إلى الهلاك: وجب القطع، كما يجب دفع المهلكات، ومثل السلعة العضو المتآكل في الأحكام. انتهى.

وفي ( 6 / 283 ، 284 ) قالوا:

الامتناع من التداوي في حالة المرض لا يعتبر انتحارًا عند عامة الفقهاء، فمن كان مريضًا وامتنع من العلاج حتى مات: لا يعتبر عاصيًا، إذ لا يتحقق بأنه يشفيه.

كذلك لو ترك المجروح علاج جرح مهلك فمات: لا يعتبر منتحرًا، بحيث يجب القصاص على جارحه، إذ البرء غير موثوق به وإن عالج.

أما إذا كان الجرح بسيطًا والعلاج موثوقًا به، كما لو ترك المجني عليه عصب العِرق: فإنه يُعتبر قد قتل نفسه، حتى لا يسأل جارحه عن القتل عند الشافعية …. فيفهم منه: أن ترك الجرح اليسير لنزف الدم حتى الموت يشبه الانتحار. انتهى مختصرًا.

والبقاء مشوَّهًا بعدم قطع العضو المتآكل أو العضو المريض: ليس عذرًا يبيح للمريض إبقاءه، ولذا كما أنه يجب إزالة الورم إن كان بقاؤه فيه إتلاف للعضو أو أنه يؤدي للموت فكذا يحرم قطعه إن كان قطعه يؤدي إلى هلاكه ولو كان يقصد إزالة الشيْن عن نفسه.

وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 19 / 207 ، 208 ):

يحرم على الشخص قطع غدة أو عضو متآكل إذا كان في القطع خطر على النفس، وليس في بقائهما خطر أو زاد خطر القطع، وإن كانت تشينه؛ لأنه قد يؤدي إلى هلاك نفسه.

– أما إذا لم يكن في إزالتها خطر: فله إزالتها؛ لإزالة الشين.

– وإن تساوى الخطران أو زاد خطر الترك: فله قطعها. انتهى.

* وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه.

والصحيح: أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، فالسرطان الموضعي – بإذن الله – إذا قطع الموضع الذي فيه السرطان فإنه ينجو منه، لكن إذا ترك انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يقطع ويزول، وقد خَرَّبَ الخَضِرُ السفينةَ بخرقها لإِنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجبًا.

وعلى هذا فالأقرب أن يقال ما يلي:

  1. أن ما عُلم أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه: فهو واجب.
  2. أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه: فهو أفضل.
  3. أن ما تساوى فيه الأمران: فتركه أفضل؛ لئلًا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر. ” الشرح الممتع على زاد المستقنع ” ( 5 / 234 ).

والخلاصة:

أنه إذا كان المرض الذي يصيب عضو المسلم يسري في بدنه ويكون قاتلًا له وليس ثمة طريقة لعلاجه إلا بقطع العضو : فإنه يتحتم قطع العضو، ويحرم الانتظار عليه حتى يسري المرض بالبدن فيقتله، ولا يكون رغبة المريض أن لا يكون مشوَّهاً أو مقعدًا عذرًا له في عدم العلاج بالقطع للمريض، ولو فُرض أن التداوي من المباحات لا من الواجبات ولا المستحبات فإنه من امتنع عن المباح حتى مات كان منتحرًا، وحينئذٍ فلا فرق بين الغذاء والدواء في هذا الباب، وإنما فرَّق من فرَّق بينهما لأن الطعام قطعي النفع للمضطر وليس كذلك الدواء، لكن إن عُلم أن دواء معيَّنًا نافع لمرض – كوقف النزف وقطع العضو – وليس ثمة غيره وأنه إن لم يتداوى مات بسببه: فيتعيَّن حينئذٍ التداوي ويكون واجبًا ويكون تاركه قاتلًا لنفسه.

* قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟.

والتحقيق: أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب وهو: ما يُعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة؛ فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق ” من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار “، فقد يحصل أحيانا للإنسان إذا استحرَّ المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف وكاستخراج الدم أحيانًا.

مجموع الفتاوى (18 / 12) . وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 6 / 282 ):

من امتنع من المباح حتى مات: كان قاتلا نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم. انتهى.

والقول بوجوب قطع العضو في حال تسببه بتلف نفسه أو تلف أحد أعضائه هو الذي رجحه علماء ” مجمع الفقه الإسلامي “.

 

والله أعلم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

spot_img

أكثر الفتاوى شهرة