تأمُّـلات قرآنية (١)

من المواضع القرآنية التي يستوقفني فيها حبكُ الآيات والكلمات والمفردات في سورة فصلت في قوله تعالى {إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا} .

كل هذه الصفحة القرآنية مليئة بالفوائد واللطائف والتنبيهات والإشارات، مما دفع الرازي يقول في هذا الموضع:

(واعْلَمْ أنَّ مَن آتاهُ اللَّهُ قَرِيحَةً قَوِيَّةً ونِصابًا وافِيًا مِنَ العُلُومِ الإلَهِيَّةِ الكَشْفِيَّةِ، عَرَفَ أنَّهُ لا تَرْتِيبَ أحْسَنُ ولا أكْمَلُ مِن تَرْتِيبِ آياتِ القُرْآنِ).

فاولاً: حديث عن منزلة الاستقامة {ثم استقاموا} وجميل ثوابها {تتنزل عليهم الملائكة} ببشرى عاجلة {ألا تخافوا ولا تحزنوا} وبشرى آجلة {وابشروا بالجنة} .
قالَ وكِيعٌ: البُشْرى في ثَلاثَةِ مَواطِنَ: عِنْدَ المَوْتِ، وفي القَبْرِ، وعِنْدَ البَعْثِ .

يا سلام!

ليس هذا فحسب بل منزلة أيضا ومكانة {نحن أولياؤكم} أين؟ {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وترغيب كبير {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} بل وأعلى من ذلك {ولكم فيها ما تدّعون} أي تتمنون .. يا رب حتى الأمنيات؟ أي نعم حتى الأمنيات.

قال الشوكاني:
والفَرْقُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ أنَّ الأُولى بِاعْتِبارِ شَهَواتِ أنْفُسِهِمْ، والثّانِيَةَ بِاعْتِبارِ ما يَطْلُبُونَهُ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ مِمّا تَشْتَهِيهِ أنْفُسُهم أوَّلًا.

وكلّ هذا ..

{نزلاً من غفور رحيم} والنُّزُلُ: ما يُعَدُّ لَهم حالَ نُزُولِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ والضِّيافَةِ .. فيا لكرم الله !

ثم مقطع جديد يعيشُ مع أعظم حالة لمن كان على الاستقامة وهم (الدعاة إلى الله) ليحكي الله عنهم أنه لا أحسنَ منهم {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} أي لا أحد!
وهو بدعواه صادق لأنه {وعمل صالحا} .. وكان خاضغا عبدًا {وقال إنني من المسلمين} ..

ويقال: نزلت الآية في الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. يعني: يأمرون بالمعروف، ويعملون به، ويصبرون على ما أصابهم.

ثم مقطع جديد للحديث عن خصائص هذه النفوس البشرية وما يعتيرها، فانظر كيف يهذبها القرآن بأصح عبارة وأبلغ بيان !

فأولاً: ليست الحسنة كالسيئة، وكرر (لا) للتأكيد، ثم استئناف مفاجئ .. {ادفع بالتي هي أحسن} قال بعض المفسرين:
ادْفَعْ بِالتَّغافُلِ = إساءَةَ المُذْنِبِ، والذَّنْبُ = مِنَ الأدْنى، والإساءَةُ = مِنَ الأعْلى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَبِالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَبِالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ.

والزمخشري يعبّر بطريقة بديعة إذ يقول : (الحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تحسن إليه مكان إساءته إليك) .

ثم تعليلٌ بما يدلّ على التصديق، وهذا عندي من معجزات القرآن .. {فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميمٌ} لم يسمه الله عدوًا، بل بينك وبينه كأنه سحابة تمر وتذهب، فالمقابلة بالحسنى بعد السيئة أشبه بالصديق الشفيق!

وهذه الصورة لا تقع إلا من ( صابر ) وصاحب ( حظ عظيم ) .. أتدري لم؟

لأن (الِاشْتِغالَ بِالِانْتِقامِ والدَّفْعِ لا يَحْصُلُ إلّا بَعْدَ تَأثُّرِ النَّفْسِ، وتَأثُّرُ النَّفْسِ مِنَ الوارِداتِ الخارِجِيَّةِ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ ضَعْفِ النَّفْسِ، فَأمّا إذا كانَتِ النَّفْسُ قَوِيَّةَ الجَوْهَرِ لَمْ تَتَأثَّرْ مِنَ الوارِداتِ الخارِجِيَّةِ، وإذا لَمْ تَتَأثَّرْ مِنها لَمْ تَضْعُفْ ولَمْ تَتَأذَّ ولَمْ تَشْتَغِلْ بِالِانْتِقامِ) الرازي ..

الجمال القرآني لا يتوقف .. فاللهم علمنا.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

ابقَ على إتصال

2,282المشجعينمثل
28,156أتباعتابع
8,870المشتركينالاشتراك

مقالات ذات صلة