أجوبة على تساؤلات، ردود على إشكالات، توضيح لمقالات، فيما جرى من مناقشات، حول #كارثة_الطوفان (11)
كارثة الطوفان ( 11 )
الحمد لله
١. توثيقا لما اختتمت به كلامي في الحلقة (١٠) أنقل عن فقيه هو مرجعية علمية عند المخالفين، وهو الشيخ القرضاوي رحمه الله، وكل النقولات من كتابه “فقه الجهاد” :
قال القرضاوي -رحمه الله- :
فماذا يفعل المسلمون حين تجري عليهم الأقدار، وتدور بهم الأيام، فينكسرون ويهزمون أمام أعدائهم؟ أو حين يرون أعداءهم أقوى بكثير منهم، وأنهم لا قِبَل لهم بهم، ولا طاقة لهم بحربهم؟ هنالك لا مفر من الاعتراف بالواقع فالمكابرة لا تغير الحقائق، ولا تجعل الضعيف قويًا، والقوي ضعيفا، وليس من الحكمة ولا الصواب أن ندخل مع العدو معركة فناء وإبادة، إذا كانت القوى غير متكافئة ولا متقاربة.
فإذا رأت قيادة المسلمين- بعد التشاور في الأمر، كما هو واجب – أن هناك خطرا عليهم من استمرار القتال، وجب وقف القتال، سواء طلب العدو إيقافه أم لم يطلبه. انتهى.
وقال:
أما إذا كان الجهاد جهاد دفع، أي جهاد مقاومة للعدو الغازي، فهذا جهاد اضطرار، لا جهاد اختيار، هو جهاد مقاومة للوقوف في وجه العدو حتى لا يدخل أرض الإسلام، أو لطرده منها إذا دخل، وفي هذا الجهاد تُبْذل المُهَج والأرواح حفاظًا على الأرض والعِرض، ودفاعًا عن الحرمات والمقدسات، ولكن ليس إلى حدِّ تعريض الجماعة كلِّها للهلاك.
فليس من الحكمة ولا الصواب أن ندخل مع العدو معركة فناء وإبادة، إذا كانت القوى غير متكافئة ولا متقاربة، وهذا من واقعية هذه الشريعة، التي تتعامل مع الحقائق على الأرض، ولا تحلِّق في مثاليات ليس تحتها طائل، إنها تعمل أبدًا على جلب المصلحة، وتوقِّي المفسدة. ولها في ذلك فقه رحب عميق، سمَّيناه (فقه الموازنات). انتهى.
وقال:
وقال الإمام ابن القيم في فقه غزوة الحديبية من “الهدي النبوي” ، حيث ذكر: جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى مصلحة المسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم.
ثم يستدل بقصة غطفان في غزوة الأحزاب: وقال في [بداية المجتهد]: (كان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شئ يدفعه المسلمون إلى الكفار، إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة ، أو غير ذلك من الضرورات). انتهى.
وقال :
وقد تنتهي المعركة بين المسلمين وأعدائهم بالصلح والمسالمة، إذا جنح إلى ذلك، وطالب المسلمين بالصلح والمهادنة، وكف الأيدي عن القتال، ومعنى الهدنة كما قال ابن قدامة: أن يعقد (أي الإمام) لأهل الحرب عقدًا على ترك القتال مدَّة، بِعوض أو بغير عوض، وتسمى: مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز بدليل قوله الله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) [التوبة:1]، وقال سبحانه وتعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) [الأنفال:61]، وروى مروان والمسور بن مخرمة: أن النبي –صلى الله عليه وسلم– صالح سهيل بن عمرو (ممثل قريش) بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين: إما بأن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يُطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح ….. بل ذهب الإمام ابن القيم إلى أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شرٌّ منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وهذا ذكره استنباطًا من فقه صلح الحديبية وما فيه من فوائد فقهية.
وإذا كان بعض الفقهاء لا يجيزون المعاهدة [الصلح مع المشركين] لأكثر من عشر سنين فهناك من أجاز الهدنة لما هو أكثر من ذلك وفق مصلحة المسلمين وهذا ما أرجحه. انتهى.
٢. وتتمة لما سبق في الحلقة (١٠) أود التنبيه على ما قد يُفهم غلطا وخاصة ممن يقرأ ليشغِّب لا ليستفيد: أن الشرع لا يحرّم مواجهة مجاهدي المسلمين لجيش الكفار إذا كان الكفار أضعاف عددهم -وبذلك يبطل الاستدلال بكثير من الحوادث جيء بها للرد على ما نقول- وأكثر معارك المسلمين كانت كذلك أصلا مثل القادسية واليرموك وأعظم منهما معركة “ملاذكرد”، وإنما الذي نبهنا عليه هو أن لا تكون أعدادهم وأسلحتهم (تبيد المسلمين أو توقعهم أسرى، أو تكون هزيمة من غير نكاية موجعة للعدو).
– ففي (جهاد الطلب وهو جهاد اختيار) لا يواجهون الكفار بل ينسحبون، وإذا حصل هذا أثناء القتال فيباح لهم الفرار، فالأمر يدور بين (عدم وجوب المواجهة) و (إباحة الفرار).
قال الخطيب الشربيني -رحمه الله-:
إذا زادت الكفار على الضعف ورُجي الظفر بأن ظنناه إن ثبتنا: استُحب لنا الثبات، وإن غلب على ظننا الهلاك بلا نكاية: وجب علينا الفرار؛ لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، أو بنكاية فيهم: استُحب الفرار. “مغني المحتاج”.
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب: فقد ألقى بيده إلى التهلكة. “السيل الجرار”.
وفي (جهاد الدفع وهو جهاد اضطرار) يبذل المسلمون جميعا ما يقدرون عليه، وإنما التوقف في حال كون القتال يسبب إبادة جماعية فيُتصرف بما ذكرناه سابقا من طلب وقف الهجوم أو وقف القتال مقابل هدنة أو صلح أو مال يُدفع لهؤلاء الكفار.
قال ابن تيمية – رحمه الله-:
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم … وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج. “الاختيارات الفقهية”.
وللأسف فهذا لا ينطبق على الحرب على غزة التي كتبنا هذه الحلقات من أجلها، فالمقاتلون هم من بدأوا المعركة جاءوا بالأسرى والسبايا! فأدخلوا العدو للبلد بنفس خبيثة نازية للانتقام الشديد فطبقوا تعاليم دينهم المحرف في قتل النساء والأطفال، واشتدوا في الوحشية إهانة وقتلا وتعذيبا، حتى احتلوا غزة كلها، فبدلا من تحرير الأقصى أضعنا غزة المحررة أصلا، وتُرك المدنيون في مواجهة الأسلحة المدمرة حتى وصل عدد الشهداء ل (٥٠ ألفا) و الجرحى (ل ١٠٠ ألف) -مع الاستمرار وعدم التوقف لهذه اللحظة- مع تدمير شامل للمساجد والجامعات والمؤسسات والبيوت، والمقاتلون في خنادق ليسوا في مواجهة مع العدو، وهذه الصورة لم يذكرها العلماء في جهاد الدفع، بل العكس هو ما كان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من وضع النساء في حصن وكان هو والصحابة في مواجهة العدو في الأحزاب، ولما بعث حذيفة بن اليمان بينهم قال له (لا تَذْعرهم علينا) وتمكن حذيفة من قتل أبي سفيان لكنه لم يفعل استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه المعركة لم يؤمن جانب النساء والأطفال وتم إذعار العدو علينا، والحجة الفارغة أنهم كانوا سيدخلون البلاد لا ترقع للأمر، فمن يعلم بقرب دخول عدوه عليه فإما أن يدفعه بالقوة الشديدة في الاستعداد، وإما أن يمنعه من الدخول بالكلية أو يؤخره قدر الاستطاعة لا أن يعجل بدخوله دخولا نازيا متوحشا.
والمجاهدون لهم أعمال بطولية لا تنكر، ومن رأى مقاطعهم لم يشك في صدقهم وبيع أنفسهم لله والرغبة في النكاية بالعدو المجرم، لكن لم يبق في القلب مجال للفرح بقتل يهود مع عظيم الحزن والألم لما أصاب المدنيين من هدم وقتل وتشريد وجوع وعطش، وعدم تأثير القتل بهم مع وجود مرتزقة كثر، ولا في آلياتهم مع وجود دول تدعمهم بأضعافها، والمشكلة أن القادة -والمنظرون لهم في الخارج- لا يزالون يرون صحة فعلهم وأنهم سيكررونها مرارا! فأين هو دفع العدو الصائل الذي أدخلتموه بلدكم؟ ولا نرى إلا معركة شرسة نازية بين جيش وشعب أعزل، مع تغني القادة السابق مرارا بتحدي هذا الجيش أن يدخل بريّا وأنه سيغرق في رمال غزة، وأنه سيندم ويهلك، مع ما سمعناه من الخرافات السمجة في “مؤتمر وعد الآخرة”، مع ما قاله (هنية) أنه أوصى نجارين لصناعة منبر جديد للمسجد الأقصى! والواقع المعلوم لكل عاقل أنه لا مقارنة بينكم في العدة والعتاد، واليهود حلفاؤهم كل كافر نجس في الأرض يبغض الإسلام ويتمنى زواله، وأنتم ليس لكم حلفاء إلا إيران المجوسية الخائنة وهي لا تقل كفرا وخبثا ووحشية عن حلفاء اليهود، ولو كانت المعركة (لا سمح الله) معها لرأينا النتائج الكارثية أضعافا مضاعفة، سيأتي مزيد بيان لهذا، إن شاء الله.
٣. وكون عدد الكفار -الذي يمنع وجوب المواجهة ويبيح الفرار- ضعف عدد المسلمين لا يراد لذات العدد بل لأنه مظنة القوة، فيكون مثله -بل وأولى منه- إذا تفوق العدو بأسلحة الدمار ولا يملك المسلم مثلها ولا أقل منها بكثير، وذكر العدد هو مع تقارب العتاد والسلاح، والمسألة وإن كان فيها خلاف بين المتقدمين إلا أن فقهاء المذاهب المعاصرين لا أظنهم يختلفون مع ما يرونه من تفاوت القوة في السلاح.
قال السرخسي- رحمه الله – :
ثم خفف الأمر فقال: {الآن خفف الله عنكم} إلى قوله {فإن يكن منكم فئة صابرة يغلبوا مئتين}، وهذا إذا كان بهم قوة القتال بأن كانت معهم الأسلحة، فأما من لا سلاح له فلا بأس بأن يفر ممن معه السلاح، وكذلك لا بأس بأن يفر ممن يرمى إذا لم يكن معه آلة الرمي.
ألا ترى أن له أن يفر من باب الحصن، ومن الموضع الذي يرمى فيه بالمنجنيق لعجزه عن المقام في ذلك الموضع؟ وعلى هذا لا بأس بأن يفر الواحد من الثلاثة، إلا أن يكون المسلمون اثنى عشر ألفا كلمتهم واحدة، فحينئذ لا يجوز لهم أن يفروا من العدو وإن كثروا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة، ومن كان غالبا فليس له أن يفر”. “شرح السير الكبير”.
وما قاله السرخسي هنا -وهو مذهب الحنفية- من تخصيص الحديث لعموم الآية غلط:
أ. فعندهم -وليس راجحا عندي- لا يَنسخ الآيةَ إلا قطعي الثبوت -القرآن والخبر المتواتر- والحديث هذا من الآحاد بل ولا يصح أصلا!
ب. نص الحديث «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ ألْفاً مِنْ قِلَّةٍ». رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
قال أبو داود في” سننه”: والصحيح أنه مرسل.
وقال في” المراسيل” : قد أُسند هذا، ولا يصح، أسنده جرير بن حازم وهو خطأ.
وأشار الترمذي لإرساله.
وعلله الدارقطني وأبو حاتم الرازي وقال: المرسل أشبه، لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
– والحديث كان صححه الشيخ الألباني رحمه الله ثم تراجع وضعفه.
ج. وهذا هو الصحيح أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والواقع يغلطه، فقد هزم المسلمون في معارك كانوا فيها أكثر من ذلك العدد.
د. ولو صح الحديث فمعناه: أن الهزيمة لا تكون من جهة العدد بل من أشياء أخرى.
قال الشيخ العثيمين -رحمه الله-:
إذا قاتل المسلمون الكفار وهم اثنا عشر ألفا فإنهم لن يغلبوا، لكن لن يغلبوا باعتبار الكمية أما باعتبار الكيفية فلو اجتمع اثنا عشر مليون هزموا….
فالحاصل: أن الحديث (لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة) هذا لو أننا صدَقنا اللهَ، أما ونحن الآن لا نريد إلا شبع البطون وشهوة الفروج ولذة الفرش فسنغلب لو كنا اثني عشر ألف مليون، نعم . انتهى.
والله أعلم.
حرر يوم الأربعاء 18/1/1446 هـ الموافق 24/7/2024 م