كارثة الطوفان ( 2 )
الحمد لله
١. قد كثر القيل والقال والأخذ والرد بيني وبين كثيرين من خصوم وإخوة منهم الطالب للعلم ومنهم العامي، وكل واحد راح (ينظّر) و (ينكر) ويحسب نفسه أنه على حق فيما يقول لأنه يدافع عن (المقاومة)، وهذا بحد ذاته منطلق ومنطق باطل، فليست كل مقاومة يحل لها أن تفعل وأن تقول ما تشاء دون حسيب ورقيب ودون بيان لحكم الشرع لأفعالها وأقوالها.
ومن أكثر الجمل استعمالا في إنكارهم (لا يفتي قاعد لمجاهد)! و (اتبع أسهم العدو تعرف أهل الحق)!و (لا يُفتي أهل الدثور لأهل الثغور) .
والرد على ذلك من وجوه مجملة:
١. ليست هذه الجمل آيات قرآنية ولا أحاديث نبوية ولا هي قواعد شرعية إفتائية.
٢. استعمل (الدواعش) هذه الجُمل سيفا مصلتا في وجوه العلماء وطلبة العلم الذين أنكروا عليهم أفعالهم القبيحة، فهل كنتم تقبلون منهم ذلك أم كنتم تردونها في وجوههم؟ فما كنتم تردون به عليهم نقبل به ردا عليكم.
٣. هذه الجمل كارثية بامتياز! فهي تجعل الحكَم على أفعال حامل السلاح هم العسكر أنفسهم ولا يحكم عليهم فقيه ولا حتى قائد سياسي! ولو كان هذا الحامل للسلاح أحمق أو أخرق أو نزقا، فهو يفرض الحرب واستمرارها وهو يمنع إيقاف نزيف دمائها، دماء الناس بعامة والمقاتلين بخاصة، وما هذا إلا فساد في الأرض عريض.
٤. الأئمة الأربعة الكبار مراجع العلماء ودور الإفتاء في طول الأرض وعرضها منذ القرون الأولى لم يجاهدوا قتالا بل جاهدوا بالعلم والتعليم وهم مع ذلك مراجع في بيان الأحكام الشرعية في تفاصيل أحكام الشرع، فهل تسحب المرجعية العلمية لهؤلاء وأمثالهم لتعطى للعساكر الخالين من العلم الشرعي وفي أعظم الأمور وهي الدماء وفي أعظم أبواب الدين وهو الجهاد ؟.
٥. ومن يقل منكم إن المقصود هو نوازل الأحكام الشرعية بالقتال فنقول ها هو الحجاج بن يوسف الثقفي من أكثر الأمراء فتحا للبلاد فهل يصلح عندكم ليكون المرجع في تلك الأحكام ويقطع الصلة مع العلماء؟ وإذا نظرتم حولكم رأيتم أشباه الحجاج سِلما لا حربا.
٦. وما يقرره المجاهد في النوازل الجهادية هو فتوى وهي توقيع عن الله تعالى، فمن أين له أدوات العلم في تنزيل النصوص الشرعية على الواقعة الجهادية؟!.
فالعالم يملك الأدوات ويكفيه معرفة الواقع الجهادي نظريا ليفتي في النازلة، وأما المجاهد فإنه وإن أحاط بالنازلة علما فإنه لا يستطيع الفتوى بها إلا أن يكون عالما بالنصوص الشرعية وقواعد الفقه وأصوله.
٧. ومن وُجد في كلامه من العلماء الربانيين مثل هذه العبارات أو قريبا منها فإنما هو في (الرباط في الثغور) ليس في الجهاد، و (لكون من كان يقوم على الثغور إنما هم من أهل العلم أصلا) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط ، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر… . وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علماً وعملاً”. “جامع المسائل” (٥/ ٣٥٨، ٣٥٩).
٨. ولو صح للمقاتلين تلك المقولات الفاسدة لقال بقولهم الساسة والأطباء و المهندسون والصنّاع، ولما بقي لحكم الشرع على أحد مدخلا، وهذه هي العلمانية بأجلى صورها.
بل الشرع حاكم على الجميع على اختلاف أعمالهم أحوالهم، وها هي المجامع الفقهية تفتي بالنوازل الطبية والبيئية والصناعية والتجارية، ويكفي العلماء الاستعانة بأهل الخبرة الدنيوية لتصور المسألة لتنزيل الأحكام الشرعية عليها، وهو ما لا يحسنه غير العلماء من تلك الصناعات والمهن.
٩. والملاحظ فيمن يستعمل هذه المقولات الفاسدة أنه لا يستعملها إلا مع من يخالفهم من أهل العلم، وأما من يوافقهم (تحزبا أو مصلحة) فلا يقيمون لها معهم وزنا بل يقولون معنا فلان وفلان ولو كان عالم سلطان في بلده.
وبالطبع نحن لا نقصد هذا الصنف من العلماء في كلامنا كله، فكل طائفة مقاتلة لها هذا الصنف من العلماء ولو كانت تفسد في الأرض أشد الفساد باسم الجهاد.
١٠. وقد ذكر الله تعالى انقسام الناس إلى (نافر في سبيل الله يجاهد) و (قاعد في سبيل الله يتعلم) وأمر تعالى (القاعدين) بتعليم (النافرين) إذا رجعوا من الجهاد ؛ لأن المقصود الكلي أن لا يقوم أحد بعبادة إلا بعلم قال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)التوبة.
ومع توفر وسائل التواصل فلا فرق بين كون المجاهد النافر يرجع لبلده أو يبقى في مكانه محتاجا لعلم العلماء، “وكان المجاهدون من الصحابة والتابعين وأتباعهم يُكاتبون العلماء مسيرة الشهر والشهرين في المسألة الواحدة فيأتيهم الكتاب. وكان أبوعبيدة يُراسل عمر وغيره في نوازل الجهاد فيُرسل له الجواب”،فلا اعتبار في ترجيح الحكم الشرعي مهنة وعمل ومكان الشخص بل موافقة الحق بصحة الاستدلال بالكتاب والسنة.
٢. والملاحظ أن كل واحد يدلي بدلوه في موضوع الساعة، من أصحاب التوجهات الإسلامية وغير الإسلامية، فمحاولة الإسكات لصوت إسلامي علمي مخالف لكم لا يليق بكم، وأنتم ترون من يجهر بما يعتقد ولو أدى فعله وقوله لإغضاب ملايين أهل السنة فما بالكم تسكتون عليهم؟ فها هو (هنية) يذهب يعزي في رئيس مجرم ويغضب ملايين أهل السنة من السوريين والعراقيين، وها هو (الزهار) يسب ويشتم من فرح بمقتل سليماني، وها هو (الددو) يفتي بالجهاد على كل حال دون نظر لمصلحة ومفسدة، وها هم الأتباع يخبطون خبط عشواء ويحرفون الكلم عن مواضعه كمن قال وكُتب في منشور نشر على الناس “إن الإقامة في محاصرة السفارة اليهودية في الأردن أفضل من إقامة ليلة القدر عند الحجر الأسود!”، وقال آخر “إن الصلاة في غزة أكثر أجرا من الصلاة في المسجد الحرام!” ويخشى في نهاية المطاف مشابهة الرافضة في تفضيل كربلاء على مكة والمدينة، خاصة بعد ذكر زعيمهم لكربلاء، وآخر يسخر من الحج والوقوف بعرفة ويجعل هؤلاء غثاء كغثاء السيل!.
– وغير ذلك بما يفوق الحصر من التحريف للشرع والافتراء على أحكامه.
حرر يوم الأربعاء 20/12/1445 هـ الموافق 26/6/2024 م